يقف مارك كارني الذي قاد بنوكًا مركزية في أوقات الأزمات، في قلب مشهد سياسي جديد ومعقّد، لا يحمل فيه فقط ملف الاقتصاد، بل راية كندا بأكملها، في لحظة مواجهة مرتقبة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لقاء الرجلين، المقرر اليوم الثلاثاء، لا يُنظر إليه كبروتوكول سياسي معتاد، بل كمواجهة رمزية بين رؤيتين مختلفتين للعالم، ولعلاقة تمتد عبر أطول حدود غير مسلحة في العالم، وفق موقع "أكسيوس" الأمريكي.
صعود كارني السياسي
من المنتظر أن يجتمع رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجهًا لوجه في لقاء يحمل أبعادًا سياسية وتجارية شائكة، وسط تفاقم الخلافات بين الدولتين الجارتين.
وتكمن أهمية هذا اللقاء، وفق موقع "أكسيوس"، في أنه يأتي في أعقاب حرب تجارية شنّها ترامب ضد كندا، تخللتها رسوم جمركية وتهديدات صريحة أعادت تعريف العلاقة التاريخية بين البلدين.
لكن المفارقة تكمن في أن هذه التوترات، بحسب مراقبين، كانت الدافع غير المباشر لصعود كارني إلى رأس السلطة التنفيذية في أوتاوا، فقد كان الحزب الليبرالي الذي ينتمي إليه كارني متجهًا نحو خسارة وشيكة في الانتخابات الفيدرالية الأخيرة، قبل أن تؤدي سياسات ترامب الاستفزازية إلى تغيير مزاج الناخب الكندي، ليكون الرد الكندي ليس اقتصاديًا فقط، بل انتخابي أيضًا.
من هارفارد إلى أوكسفورد
ولد مارك كارني في فورت سميث، إحدى بلدات الأقاليم الشمالية الغربية في كندا، ونشأ في بيت علم وتعليم؛ فوالداه كانا من المعلمين، تعليمه العالي كان بوابة عبوره إلى النخبة الفكرية والمالية في العالم، فقد حصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة هارفارد عام 1988، ثم نال درجتي الماجستير والدكتوراة من جامعة أكسفورد في تسعينيات القرن الماضي، بحسب سيرته الذاتية المنشورة على موقع بنك كندا.
ثم انطلق كارني في مسيرة مهنية متميزة في القطاع المالي، حيث عمل لمدة 13 عامًا في شركة جولدمان ساكس العملاقة، متنقلًا بين لندن وطوكيو ونيويورك وتورونتو، وكان أحد زملائه في الشركة صرّح لصحيفة "التليجراف" البريطانية أن كارني غادر "عند نقطة التحول في حياته المهنية"، في إشارة إلى استعداده لمرحلة جديدة في العمل العام.
من البنك المركزي إلى رجل دولة
عام 2003، بدأ كارني مسيرته في القطاع العام الكندي عندما عُيّن نائبًا لمحافظ بنك كندا، ثم ما لبث أن أصبح نائب وزير المالية الأول في وقت لاحق من العام نفسه. وبتقدمه إلى منصب محافظ بنك كندا، لعب دورًا بارزًا في قيادة البلاد لتجاوز الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
لكن نجم كارني لم يتوقف عند حدود كندا، إذ تم تعيينه عام 2013 محافظًا لبنك إنجلترا، ليصبح أول شخص غير بريطاني يشغل هذا المنصب منذ تأسيس البنك عام 1694، وفي خضم الاضطراب الاقتصادي الناتج عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، حذّر "كارني" من العواقب الاقتصادية المحتملة، ما جعله عرضة لانتقادات تتهمه بتسييس منصبه، بحسب ما أوردته صحيفة "الجارديان" البريطانية.
مناخ السياسة
بعد انتهاء ولايته في بنك إنجلترا، اختار كارني خوض غمار العمل المناخي، فعُين مبعوثًا خاصًا للأمم المتحدة للعمل المناخي والتمويل، وهي خطوة اعتبرها مراقبون امتدادًا لاهتمامه بالاستدامة ومخاطر التغير المناخي.
وفي عام 2020، انضم إلى شركة بروكفيلد لإدارة الأصول الاستثمارية، حيث وُصف في بيان رسمي للشركة بأنه "مدافع مخضرم عن الاستدامة، لا سيما في مجال إدارة مخاطر المناخ والحد منها".
لم يتوقف دور "كارني" عند حدود الاقتصاد والمناخ، بل تحوّل إلى مستشار رئيسي لرئيس الوزراء الكندي السابق جاستن ترودو خلال جائحة كوفيد-19، خاصة في تصميم الاستجابات الاقتصادية، وهو ما زاد من التكهنات حول طموحه السياسي طويل الأمد.
حملة كارني السياسية
في سبتمبر من العام الماضي، أصبح كارني رئيسًا لفريق العمل الليبرالي المعني بالنمو الاقتصادي، ما مهّد الطريق أمام دخوله الفعلي إلى المعترك السياسي.
وفي يناير الماضي، أعلن رسميًا ترشحه لخلافة ترودو، قائلًا: "أنا لست المشتبه به المعتاد عندما يتعلق الأمر بالسياسة، لكن هذا ليس الوقت المناسب للسياسة المعتادة".
وقد لقي هذا الخطاب صدى واسعًا لدى القاعدة الليبرالية، ما تجلّى في مارس الماضي بفوزه الكاسح بنسبة 85.9% من أصوات الحزب الليبرالي، ليُنتخب زعيمًا له وخليفة لـ"ترودو" في رئاسة الوزراء.
كان دخوله إلى البرلمان قد تم من خلال الانتخابات المبكرة في أبريل، حيث ترشح للمرة الأولى وفاز بمقعد عن إحدى ضواحي العاصمة الكندية أوتاوا.
في خطاب النصر الذي ألقاه بعد انتخابه زعيمًا للحزب، لم يُخفِ كارني موقفه من العلاقة المتأزمة مع الولايات المتحدة، حين صرّح قائلًا إن الوقت قد حان لإنهاء "علاقة التكامل القديمة" بين كندا والولايات المتحدة، في إشارة واضحة إلى تراجع الثقة المتبادلة التي كانت سمة العلاقة الثنائية لعقود.
ومع استعداده للقاء الرئيس الأمريكي، يبدو أن كارني لا ينوي الاكتفاء برد الفعل، بل يحمل في جعبته تصورًا جديدًا لدور كندا على الساحة الدولية، يعكس مسيرته العالمية ويستند إلى مبدأ السيادة الاقتصادية والمناخية.
لقاء كارني وترامب
تُجمع التحليلات السياسية، وفقًا لموقع "أكسيوس"، على أن اللقاء بين كارني وترامب سيكون أكثر من مجرد اجتماع روتيني بين رئيسي دولتين متجاورتين، فكارني، المعروف بصرامته الاقتصادية وهدوئه الدبلوماسي، سيواجه ترامب، رجل الأعمال الذي لم يتوان يومًا عن استخدام الرسوم الجمركية والعقوبات كأدوات ضغط سياسي.
قد يسعى "كارني" إلى إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية الثنائية على أساس أكثر توازنًا، في حين سيحاول ترامب، بلا شك، فرض شروط تعكس رؤيته الحمائية ومصالحه الانتخابية في الداخل الأمريكي.
لكن في كل الأحوال، فإن حضور كارني في هذا المشهد، مدججًا بخبرة تمتد من وول ستريت إلى داونينج ستريت، ومن الأمم المتحدة إلى الحملات الانتخابية، يجعله محاورًا استثنائيًا يمثل جيلًا جديدًا من القادة الكنديين، القادرين على الجمع بين الاحتراف المالي والحنكة السياسية.