وسط مشهد انتخابي كان يُراقب عن كثب كاستفتاء غير مباشر على سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خرج حزب العمال الأسترالي منتصرًا بأغلبية مريحة في الانتخابات العامة التي شهدتها البلاد، بينما تهاوت آمال المحافظين في ليلة وصفتها وسائل الإعلام بـ"الليل الوحشي".
ولاية ثانية لألبانيز
حقّق رئيس الوزراء الأسترالي، أنتوني ألبانيز، نصرًا كبيرًا بفوزه بولاية ثانية، بعد أن حصل حزبه (حزب العمال اليساري) على ما لا يقل عن 87 مقعدًا من أصل 150 في مجلس النواب، وفقًا لأحدث التقديرات الانتخابية.
وصعد "ألبانيز" إلى المنصة وسط أجواء احتفالية في سيدني، ليعبّر عن امتنانه للناخبين، قائلًا: "في هذا الوقت من عدم اليقين العالمي، اختار الأستراليون التفاؤل والعزيمة"، ورأى مراقبون في تصريحاته تأكيدًا لأن حملة حزبه استندت إلى رسائل الأمل والاعتدال بدلًا من الانقسام والخوف.
هذه النتيجة تجعله أول رئيس وزراء أسترالي يفوز بإعادة انتخابه منذ أكثر من عقدين، ما يعكس ثقة عامة متجددة في نهجه الهادئ والواقعي مقابل الخطاب المتشدد لمنافسيه المحافظين.
هزيمة ساحقة للمحافظين
على الجانب الآخر من المشهد، مُني بيتر داتون، زعيم الحزب الليبرالي المحافظ، بهزيمة مدوية خسر على أثرها مقعده في ضواحي بريسبان، وهو المقعد الذي احتفظ به لأكثر من 20 عامًا.
وأعلن "داتون"، الذي كان يأمل أن يصبح رئيس الوزراء القادم، مسؤوليته الكاملة عن الهزيمة، قائلًا: "عائلتنا الليبرالية تعاني في جميع أنحاء البلاد الليلة، لقد حدّد خصومنا هويتنا في هذه الانتخابات، وهذه ليست الصورة الحقيقية لهويتنا، لكننا سنُعيد بناء أنفسنا من هنا".
كما لفتت شبكة "سي إن إن" أن هذا السقوط يضع نهاية لمسيرة طويلة لضابط الشرطة السابق، الذي شغل مناصب وزارية رفيعة في الدفاع والهجرة والشؤون الداخلية خلال حكومات الائتلاف السابقة.
ترامب في قلب المعركة
رغم أن الانتخابات جرت على الأراضي الأسترالية، فإن شبح دونالد ترامب خيّم بقوة على المشهد الانتخابي، فقد أصبح التعامل مع الرئيس الأمريكي وسياساته الحمائية، محورًا رئيسيًا في الحملة الانتخابية، حيث حاول كل طرف أن يقدم رؤيته في هذا الصدد.
وبدا داتون في البداية واثقًا من فوزه، لكنه فشل في التخلص من المقارنات المستمرة بينه وبين ترامب، وتفاقمت الأزمة عندما استخدمت السيناتور جاسينتا نامبيجينبا برايس، التي رشّحها داتون لمنصب وزيرة حكومة الظل لكفاءة الحكومة، شعار "لنجعل أستراليا عظيمة من جديد"، في تكرار واضح لعبارة ترامب الشهيرة، لاحقًا، وزعمت برايس أنها لم تكن مدركة لاستخدامها هذا الشعار.
ورأت "سي إن إن" أن ألبانيز نجح في التمايز عن هذا النمط السياسي، حيث وصف نهج ترامب الجمركي بـ"غير الصديق"، وأعلن عن ذلك في مؤتمر صحفي جمعه بوزيري الخارجية والتجارة، وجاءت تصريحاته ردًا على رسوم جمركية بنسبة 10% فرضها ترامب على أستراليا قبل أن تُعلق لاحقًا.
كندا ثم أستراليا
ليست أستراليا وحدها من اتجهت يسارًا، فقد سبقتها كندا في انتخاب مارك كارني زعيمًا للحزب الليبرالي، في انتصار اعتُبر بدوره ردًا على السياسات الشعبوية المتأثرة بترامب.
خسارة داتون في أستراليا توازي سقوط زعيم المحافظين الكندي بيير بواليفير، ما يشير إلى موجة سياسية أوسع تتجاوز الحدود القارية، وتقول "سي إن إن" إن هذه التحولات تعكس تراجعًا عالميًا للثقة في زعماء يتبعون نهجًا عدوانيًا أو منفصلًا عن الواقع.
ورأت ماريا تافلاجا، مديرة مركز دراسة السياسة الأسترالية، في المشهد الأسترالي الحالي "نسخة مخففة من الحالة الكندية"، مشيرة إلى أن ترامب أوجد جماهيرية شعبوية متأثرة بخطاب "السيادة الوطنية" ومناهضة المؤسسة.
وأضافت أن هذه الموجة قد حوّلت رؤى الناخبين من النقد الاقتصادي لحكومة العمال إلى قلق أعمق بشأن الحليف الأمريكي الأقرب.
هذه الصدمة دفعت "داتون" للتنصل من أي علاقة شخصية أو سياسية بترامب، إذ قال خلال مناظرة انتخابية: "لا أعرف دونالد ترامب؛ لم ألتقِ به قط"، لكن الناخبين بدوا أقل تصديقًا".
تفويض قوي
ألبانيز، الذي تولى الحكم للمرة الأولى عقب ما وصف بـ"انتخابات المناخ" عام 2022، حافظ على نبرة حازمة في قضايا البيئة والطاقة، وأكد مجددًا التزامه بالوصول إلى صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول 2050، رغم تعرضه لانتقادات بسبب موافقته على بعض مشاريع الفحم والغاز.
وعد "ألبانيز" ببناء 1.2 مليون منزل جديد لمواجهة أزمة السكن، وتخفيض الضرائب، وتوفير أدوية بأسعار معقولة، وتسهيل ملكية المنازل للمواطنين الجدد، وهي وعود تشكل حجر الزاوية في برنامجه للولاية الثانية.
دبلوماسيًا، يُنسب إليه تحسّن العلاقات مع الصين وجزر المحيط الهادئ، لا سيما في مواجهة التوسع الصيني الإقليمي. ووعد بمواصلة هذا النهج لتعزيز موقع أستراليا الجيوسياسي.
أجندة ترامب البيئية
هزيمة داتون تعني دفن خطته لبناء سبع محطات نووية، وهو مشروع انتقده خبراء البيئة باعتباره غطاءً لاستمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري، وعلّق ديفيد ريتر، الرئيس التنفيذي لمنظمة "جرينبيس أستراليا والمحيط الهادئ"، قائلًا: "تُظهر نتيجة الانتخابات أن الأستراليين رفضوا بشكل شامل أجندة الائتلاف الترامبية المتعلقة بتدمير المناخ والطبيعة".
وقد تعهد ألبانيز، في ليلة فوزه، بأن تكون الطاقة المتجددة محور مستقبل الاقتصاد الوطني، مؤكدًا أن الأستراليين "يعلمون أن الطاقة المتجددة فرصة يجب أن نغتنمها معًا".
في عام 2023، قاد داتون حملة ناجحة ضد استفتاء الحكومة حول منح السكان الأصليين تمثيلًا دستوريًا من خلال ما سُمّي بـ"الصوت"، واعتبر داتون أن المقترح يُقسّم الأستراليين، رافضًا رفع أعلام السكان الأصليين في المؤتمرات الصحفية بحجة ضرورة الاتحاد تحت علم واحد.
أما ألبانيز، فكان من أبرز المدافعين عن هذا الاعتراف الرمزي، في موقف رأى فيه كثيرون تعبيرًا عن رؤيته لأستراليا جامعة وشاملة لجميع مكوناتها.
كلمة أخيرة
في ختام ليلة الفوز، دعا ألبانيز الأستراليين إلى الوحدة والتسامح، قائلًا: "بغض النظر عمّن صوتت له، أو أين تعيش، أو من تحب، نحن جميعًا أستراليون"، وبذلك قدّم نفسه كزعيم نقيض، لا يصرخ ولا يفرض، بل يحاور ويجمع.
وحسب "سي إن إن"، فإن الرسالة الأسترالية كانت واضحة: "لا مكان للشعارات المستوردة ولا الزعماء المستنسخين، بل للسيادة الوطنية، والحلول الواقعية، والقيادة الإنسانية".
وقال سيمون جاكمان، الأستاذ في جامعة سيدني، إن الأجواء هذه المرة لا تشبه انتخابات 2022 التي أطاحت بسكوت موريسون.. "لا يشعر الناس بالحماس الشديد لتغيير الحكومة كما في السابق.. يريدون فقط إنهاء الأمر".