في أعماق ساحة المعركة التي أعادت رسم خريطة التوازنات الدولية، تقف أوكرانيا ليست كبلد محاصر فحسب، بل كحصن غربي تتكئ عليه واشنطن في مواجهة تمدد روسي وتوجس صيني لا يهدأ.
لم تعد أوكرانيا فقط ساحة اختبار للمرونة المحلية، بل أصبحت مرآة تعكس التردد الغربي في حسم خياراته الجيوسياسية، ففي الوقت الذي يطرح فيه البعض سؤالًا وجوديًا: "هل الاستثمار في أوكرانيا حماقة أم حكمة؟"، تأتي الإجابة مدعومة بالدلائل من قلب كييف، ومن مصنع للطائرات المسيّرة، ومن خطوط الكهرباء المحطمة التي أنقذتها المساعدات الأمريكية.
وحسب تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن فقد رسم صورة مغايرة لما يظنه البعض أن دعم أوكرانيا ليس مجرد دعم لحليف، بل استثمار مستقبلي في الأمن والاقتصاد والهيبة الغربية في آنٍ واحد.
خطر يتجاوز أوروبا
تشير إميلي هاردينج، مديرة برنامج الاستخبارات والأمن القومي والتكنولوجيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي، إلى أن إدارة ترامب هددت مرتين سابقًا بالانسحاب من مفاوضات السلام بين موسكو وكييف.
وأوضحت هاردينج، أن هذه التهديدات آنذاك كانت تشكّل إشارات ضعف قد تؤدي في تكرارها الثالث إلى كارثة استراتيجية، وأن التخلي عن أوكرانيا اليوم يعني إهدار ثلاث سنوات من استثمارات أمريكية ضخمة، ليس فقط في البنى التحتية، بل في إعادة تعريف الدور الأمريكي على الساحة الدولية.
وبحسب التقرير، فإن هذا الانسحاب -إن حصل- لن يقتصر أثره على تراجع النفوذ، بل سيؤدي إلى خسائر اقتصادية فادحة، وإحباط رواد الأعمال الأمريكيين، وترك الصين دون رادع فعال وهي تتابع بدقة مآلات المعركة الأوكرانية.
ساحة مواجهة أخرى
واستعرض التقرير المشهد الكارثي في وزارة الطاقة الأوكرانية، حيث كشفت الغارات الروسية عن معرفة دقيقة بالبنية التحتية الأوكرانية، وركّزت على مواقع تجعل الإصلاح "مؤلمًا إلى أقصى درجة ممكنة"، ورغم ذلك، شكّلت المساعدات الأمريكية عنصرًا فارقًا في استعادة الكهرباء لملايين الأوكرانيين.
وتقدّر أوكرانيا تكلفة إعادة بناء شبكتها الكهربائية بنحو 90 مليار دولار، ما يمثل فرصة ذهبية أمام الشركات الأمريكية للمشاركة في هذا المشروع الطموح، وليس فقط كدعم، بل كاستثمار يعود بالنفع المزدوج.
فرص اقتصادية
في خضم سباق التسلح الجديد، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عزمها تسريع إنتاج أنواع متعددة من الأسلحة، أبرزها صواريخ "إسكندر" وقذائف المدفعية التي تصل إلى 3.6 مليون قذيفة. وفي المقابل، يسابق الأوكرانيون الزمن لمواكبة هذا التصعيد.
رغم أن الحلفاء الأوروبيين تبرعوا بنحو 40 مليار دولار لصالح كييف لتتمكن من شراء الأسلحة، فإن الولايات المتحدة لا تبيع السلاح لأوكرانيا، ما يعتبر خسارة اقتصادية مباشرة لبعض الولايات الأمريكية، مثل بنسلفانيا وآيوا (منتجات القذائف)، وفلوريدا وألاباما وأركنساس (أنظمة باتريوت).
وبحسب التقرير، يمكن لأوكرانيا شراء السلاح الأمريكي بمليارات الدولارات، بتمويل أوروبي، ما يعني أن واشنطن تخسر فرصًا اقتصادية وتجارية واستراتيجية في حال تقاعسها.
ورغم الألم، فإن قادة المجتمع المحلي تحدثوا بفخر عن ترميم 93% من البنية التحتية، وهو إنجاز تحقق جزئيًا بدعم من متبرعين غربيين، ما يعتبر لحظة إنسانية تختصر كل ما يعنيه الاستثمار الحقيقي في بلد يُراد له النهوض رغم الحرب.
مستقبل تقوده التكنولوجيا
وعبّر قادة غرفة التجارة الأمريكية في أوكرانيا عن أملهم في أن يصبحوا شركاء فاعلين في بناء اقتصاد حديث قائم على الأمن السيبراني والأنظمة المستقلة والتصنيع الذكي، وفي لقاء عشاء مع ممثلي 12 شركة أمريكية، أعربوا عن رغبتهم في العمل على الأرض، لا من خلال مكالمات عبر "زووم".
وأكد هؤلاء المستثمرون أن الأوكرانيين "سيتذكرون من وقف بجانبهم في المحن"، وأن الشركات التي تزرع الثقة اليوم، ستجني غدًا شراكات استراتيجية.
تؤكد "هاردينج" في تقريرها أن التخلي عن أوكرانيا لا يُعد تراجعًا فحسب، بل تهيئة المسرح لانتصارات روسية جديدة، إذ ترى أن موسكو لم تكتف يومًا بنصر جزئي، بل ستواصل زحفها نحو دول البلطيق، وحلف الناتو، وربما بولندا.
وإذا انسحبت واشنطن من هذا التحالف القائم منذ 70 عامًا، فإن ذلك سيُعد انقلابًا على الدروس المستخلصة من أحداث 11 سبتمبر، حين أعادت أمريكا تموضعها العالمي. التراجع الآن، بحسب الكاتبة، سيقوّض مصداقية الولايات المتحدة لعقود مقبلة.
الصين تراقب وتنتظر
يرتكب بعض السياسيين الأمريكيين خطأ جسيمًا حين يطالبون بتخزين الأسلحة تحسبًا لصراع مع الصين، كما ورد في التقرير، فالصين، وفق التقرير، لا تراقب حجم مخزونات الأسلحة، بل تراقب فعاليتها في الميدان، وهذا ما يحدث في أوكرانيا.
وعليه، فإن استمرار إرسال الدعم العسكري لكييف هو رسالة ردع واضحة لبكين، ومصدر إلهام للتحالفات الآسيوية في تايوان وكوريا الجنوبية واليابان. أما التراخي، فسيُقرأ كإذن غير مباشر بالتمدد الصيني.
أوكرانيا، كما يوضح التقرير، أصبحت مختبرًا عسكريًا حيًا، ومركزًا للتكنولوجيا الحديثة في صناعة المسيّرات والمجابهات الإلكترونية، إذ إن مصنع طائرات بدون طيار أكد أن كييف طورت تكنولوجيا تفوق الدفاعات الروسية، وإن سقطت هذه التكنولوجيا بيد روسيا أو تم تسريبها إلى الصين، فستكون العواقب وخيمة.
أرباح تتجاوز الميزانيات
يختم التقرير بنداء مباشر لصنّاع القرار في واشنطن، بأن دعم أوكرانيا ليس نزوة أو مغامرة، بل استثمار مستقبلي في السلام العالمي، والردع الفعّال، والشراكات الاقتصادية.
فكل دولار يُنفق اليوم، يمنع إنفاق ملايين الدولارات لاحقًا، وكل نظام دفاع جوي يُرسل الآن، هو جدار صدّ ضد هجوم قد يستهدف الحلفاء لاحقًا، وعلى الرغم من التكاليف، فإن هذا سيكون "أقل انتصار كلفة في التاريخ العسكري الأمريكي"، إذا ما تم اغتنامه الآن.