غزت مشاهد الجريمة والغموض الشاشات العربية، متسللة إلى تفاصيل المسلسلات والأفلام التي لم تعد تكتفي بسرد الحكايات التقليدية، بل غاصت عميقًا في دهاليز النفس البشرية وأسرار المجتمع، فبين قضايا قتل معقدة وشخصيات مضطربة نفسيًا، أصبحت الدراما العربية أكثر جرأةً في طرح موضوعات لطالما كانت محاطة بالصمت أو الخوف.
ومع تصاعد هذا التيار، نطرح تساؤلًا: هل نحن أمام انعكاس صادق لتحولات اجتماعية عميقة أو أمام موجة درامية تستغل عنصري الصدمة والغموض لاستقطاب الجمهور؟
الجريمة في الدراما
لطالما كانت الجريمة عنصرًا جوهريًا في الأدب والفن منذ أقدم العصور، ووجدت في الدراما العربية الحديثة ساحة خصبة لاستكشاف أبعادها النفسية والاجتماعية، غير أن التحول اللافت اليوم يكمن في الجرأة التي باتت الأعمال تتناول بها هذه القضايا، دون مواربة أو تزيين، مُقدِّمَة سرديات عميقة تتعاطى مع العنف كواقع معقد وليس كعنصر إثارة سطحي.
محطات في الجريمة
من بين الأعمال اللافتة التي تناولت هذه الموضوعات، برز مسلسل "سفاح الجيزة" للفنان المصري أحمد فهمي، الذي جسَّد شخصية مزدوجة تُخفي وراء مظهر البراءة ماضيًا دمويًا مروعًا.
وبمهارة درامية عالية، عرض العمل رحلة القاتل جابر، مستخدمًا أسماءً وهويات مزيفة في سلسلة من الجرائم التي صدمت المشاهدين بواقعيتها.
أما مسلسل "ساعته وتاريخه"، للمخرج عمرو سلامة، فاتخذ منحى مختلفًا، معتمدًا على قضايا مستوحاة من وقائع حقيقية أمام المحاكم المصرية، وتعمقت الحبكة في دراسة الدوافع النفسية والاجتماعية للجريمة، مقدمًا تجربة درامية مكثفة تجمع بين التشويق والتحليل الاجتماعي.
وفي الموسم الرمضاني الماضي، جاء مسلسل "قهوة المحطة" ليحكي قصة شاب من الصعيد يصطدم بواقع قاسٍ في القاهرة، لتنتهي رحلته بجريمة قتل غامضة تركت تفاصيلها مفتوحة، ما زاد من حالة التشويق وأشعل خيال الجمهور.
أما مسلسل "بريستيج" فنسج حبكته حول جريمة قتل وسط العاصمة في أثناء انقطاع الكهرباء، ليتحول مقهى صغير إلى مسرح لجريمة تتقاطع فيها مصائر 14 شخصًا من خلفيات مختلفة، في أجواء يلفها التوتر والغموض.
جدل بين رفع الوعي وزيادة العنف
الناقدة الفنية المصرية ماجدة موريس ترى أن عرض قضايا الجريمة في الدراما يجب ألا يكون لمجرد الإثارة، بل يجب أن يتم ضمن إطار أخلاقي وفكري واضح.
وتقول "موريس"، لموقع "القاهرة الإخبارية": "الدراما الجادة لا تروِّج للجريمة، بل تكشف أسبابها وتحثُّ على التفكير النقدي، وهي بذلك تساهم في رفع الوعي الاجتماعي وتثقيف الجمهور، لا سيما الآباء والأمهات، بضرورة الانتباه للمؤشرات الخطرة التي قد تمر خفية في الحياة اليومية".
وتؤكد ماجدة موريس أن التناول الفني الرصين يجعل من الدراما أداة إنسانية قوية تساهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا ومناعة أمام الظواهر السلبية.
الجريمة جزء من الحياة
من جهته، يؤكد المؤلف المصري عمرو سمير عاطف أن تناول الجريمة في الدراما ليس ظاهرة مستحدثة، بل هو جزء أصيل من تاريخ الفن.
ويقول: "منذ أيام السينما بالأبيض والأسود وأعمال المخرجين الكبار مثل كمال الشيخ، كانت الجريمة حاضرة في الحكايات، حتى في بعض الأعمال الكوميدية، فالجريمة تمثل حدثًا صادمًا يستدعي التفكير والتحليل، ومن الطبيعي أن تنعكس في الأعمال الفنية".
ويضيف أن معالجة الجرائم دراميًا تفتح بابًا واسعًا للتأمل في طبيعة الخلل الاجتماعي والإنساني الذي يقود إلى ارتكابها.
كشف أمراض المجتمع
يرى "عاطف" أن الدراما التي تتناول الجريمة لا تتوقف عند حدود الحدث الدموي، بل تتجاوز ذلك لكشف الأمراض الاجتماعية والنفسية التي تنخر في جسد المجتمع.
وحول التحديات التي يواجهها في أثناء كتابة هذا النوع من الأعمال، يوضح: "التحدي الأكبر يكمن في دقة التفاصيل المتعلقة بالتخطيط للجريمة وأسلوب تنفيذها، ولذلك أحرص دائمًا على استشارة محامين وضباط شرطة لضمان الواقعية والمصداقية".
وعن مصادر إلهامه، يؤكد أن الواقع هو الرافد الأول لأفكاره، وأنه ينطلق أحيانًا من حادثة حقيقية ليبني عليها قصة درامية متخيلة أكثر ثراءً وتعقيدًا.
"القصة الكاملة"
وفيما يتعلق بمشاركته في مسلسل "القصة الكاملة"، يكشف عاطف أنه استلهم العديد من القضايا الدرامية من حلقات برنامج "سامح سند"، الذي عرض قصصًا حقيقية عكست اتجاهات المجتمع وكشفت عن التغيرات الخفية التي قد تؤدي إلى وقوع الجرائم.
ويختم قائلًا: "عندما طُلب مني المشاركة في كتابة العمل، شعرت بحماسة شديدة، لأنني أؤمن بأن تحويل هذه القصص الواقعية إلى دراما يساهم في توعية الجمهور وتحفيزه على التفكير النقدي".
رسالة للمجتمع
يشير المخرج المصري مجدي الهواري إلى أن مصداقية الكاتب سامح سند في طريقة الحكي ورواية القصص كانت الدافع الأكبر لخوض مشروع "القصة الكاملة"، لا سيما أن الأخير لا يكتفي بالسرد فقط، بل يبحث ويدقق للوصول إلى الحقيقة الكاملة وراء كل جريمة أو قصة يرويها، نظرًا لان بعض القصص تتضمن عوامل نفسية معقدة، فيبرز الجانب السيكولوجي، سواء من خلال تحليل دوافع الجاني أو تفسير تصرفاته المرتبطة باضطرابات أو صدمات نفسية.
أضاف أن التحدي الأكبر تمثّل في كيفية تقديم القصة بشكل يُقنع الجمهور ويحافظ على مصداقيتها، قائلا: رسالة مسلسلات الجريمة لا تقتصر على الإثارة والتشويق، بل تمتد إلى تقديم توعية حقيقية للمجتمع، فهناك شريحة من الناس، قد يتأثرون بمثل هذه القصص في حال غياب الوعي الكافي، ولذلك أحرص دائماً على تذكير فريق العمل بأننا جميعًا يمكن أن نكون مكان الجناة إذا لم نحظَ بالتعليم الكافي أو التوعية المناسبة، فهذه الفكرة تشكّل جوهر الرسالة الاجتماعية التي يسعى العمل إلى إيصالها.
الجريمة لا تفيد
يؤكد "الهواري" أن عنصر الإثارة والتشويق موجود بطبيعته داخل القصص الحقيقية، ولا يحتاج صنّاع العمل إلى إضافته بشكل مصطنع، فعندما تكون القصة مستمدة من واقع حقيقي، تفرض بطبيعتها حالة من التشويق والتفاعل لدى المشاهدين، ومع ذلك، فإن الجانب الأهم بالنسبة له هو أن يحمل العمل رسالة واضحة ومباشرة إلى المجتمع: "الجريمة لا تفيد".
شدّد المخرج المصري على أهمية تأثير هذه النوعية من المسلسلات على المجتمع، خصوصًا الشباب والأطفال.
وأكد أن من الضروري تقديم جرعة من الوعي من خلال القصص الحقيقية، لأن الدراما تملك تأثيرًا عميقًا على وجدان المشاهدين، وقد تلعب دورًا أساسيًا في توجيههم نحو فهم أعمق لخطورة الجريمة، والدروس التي يجب أن يتعلموها من تلك الحكايات.