عندما وصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه "مثير للشفقة"، ركَّز الاتحاد الأوروبي أنظاره على "وادي السيليكون"، أحد أهم مصادر القوة الأمريكية، لإثبات خطئه، وهددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بفرض ضرائب على عائدات الإعلانات للخدمات الرقمية إذا انهارت المحادثات التجارية.
لكن لن يجرؤ سوى قلة من الدبلوماسيين الأوروبيين على القول صراحةً إن خطوة "فون دير لاين" لاستهداف شركات التكنولوجيا الكبرى "فكرة سيئة".
وبينما تدعم معظم العواصم الأوروبية أورسولا علنًا في محاولة لتعزيز موقف الاتحاد الأوروبي في المفاوضات مع واشنطن، لكن وراء قشرة الوحدة، فإن هذه البلدان، بما في ذلك ألمانيا وإيرلندا، بدأت بالفعل تتراجع عن التهديدات التي وجهتها المفوضية.
وفي الكواليس، بدأت بلدان أخرى تشعر بالقلق والتوتر، كما أشار تقرير للنسخة الأوروبية لصحيفة "بوليتيكو".
ومن بين المخاوف الأوروبية أن الرسوم الرقمية الجديدة من شأنها أن تؤثر على رواد الأعمال الأوروبيين بشكل أقوى من أقطاب التكنولوجيا الأمريكيين في وادي السيليكون، وأن تصعيد الحرب التجارية قد يجر اقتصادات الاتحاد الأوروبي إلى الهاوية.
لا بديل
عندما استخدم الساسة الألمان عبارة "لا يوجد بديل" لتسويق فكرة تخفيضات الإنفاق أثناء أزمة منطقة اليورو، عادوا يستخدمون نفس المنطق للتحذير من ضريبة الإعلان الرقمي.
في الواقع، سوف تستمر شركات الاتحاد الأوروبي في الاعتماد على شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، مثل "فيسبوك" أو "جوجل" في إعلاناتها، لأنه "لا يوجد بديل" مقره في أوروبا.
والأسبوع الماضي، قال وزير المالية الألماني يورج كوكيس للصحفيين: "إذا نظرتم إلى مراكز البيانات، وإذا نظرتم إلى مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، فمن المؤسف أنه لا توجد بدائل كافية للعروض التي تقدمها الصناعة الرقمية الأمريكية"، ما يعني أن أي تحرك من جانب الاتحاد الأوروبي لضرب شركات التكنولوجيا الأمريكية سوف يرتد فقط على الشركات والمشترين الأوروبيين.
وأثارت تصريحات الوزير الألماني غضب رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد، التي اتهمته بتقويض وحدة الاتحاد الأوروبي في المفاوضات خلال اجتماع مغلق لوزراء مالية الاتحاد الأوروبي في وارسو، وفق "بوليتيكو".
لا طريقة للتنفيذ
على مدار الأعوام، فشلت الجهود الرامية إلى فرض ضريبة واسعة النطاق على الخدمات الرقمية على إيرادات الشركات عند كل عقبة، لأن تغيير السياسة الضريبية يتطلب الإجماع بين دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين. وهو ما يمثل حقل ألغام قانوني.
لتجنب ذلك، اقترحت "فون دير لاين" استهداف الخدمات الرقمية وعائدات الإعلانات على وجه الخصوص من خلال ما يسمى بـ"البازوكا التجارية" -أداة مكافحة الإكراه- التي لم يتم نشرها حتى الآن.
ومع ذلك، لا يمكن استخدام مؤشر المنافسة الآسيوي ضد الشركات التي تتمتع بحضور قوي في أوروبا، إذ تندرج معظم الشركات الرقمية ضمن هذه الفئة لأنها مسجلة في بلدان الاتحاد الأوروبي مثل أيرلندا "أبل ومايكروسوفت وجوجل وميتا"، أو لوكسمبورج "أمازون".
وقد يستهدف الاتحاد الأوروبي البضائع المباعة عبر الإنترنت من بائعين أمريكيين إلى مشترين أوروبيين، ولتحقيق ذلك سيتعين تحديد البائعين الأمريكيين على المنصة للمستهلكين في الاتحاد الأوروبي؛ لكن يبدو هذا حلًا غير عملي.
المعارضة الأيرلندية
تعد أيرلندا من بين الدول الأوروبية الأكثر عرضة للحرب التجارية مع الولايات المتحدة، لأنها تستضيف شركات تابعة لشركات رقمية أمريكية عملاقة، كما صدَّرت أيضًا منتجات دوائية بقيمة تزيد على 44 مليار يورو إلى أمريكا في عام 2024.
لذلك، أيرلندا لديها الكثير لتخسره من أي ضريبة تفرض على شركات التكنولوجيا، وتحدت هذه الخطوة بالفعل علنًا، إذ صرّح رئيس وزرائها مايكل مارتن بأن "بلاده ستقاوم مقترحات فون دير لاين".
وأضاف مارتن أن فرض ضريبة جديدة، بالإضافة إلى اللوائح التنظيمية الصارمة للاتحاد الأوروبي على شركات التكنولوجيا الكبرى، سيكون بمثابة "إشعال النار".
اتفاقية عالمية
في الأيام الأخيرة، أشارت الولايات المتحدة إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأنها تريد إعادة فتح المناقشات بشأن اتفاق ضريبي عالمي.
ولم توقع واشنطن مطلقًا على الجزء من الاتفاق الذي يهدف إلى جعل مجموعات التكنولوجيا الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات تدفع المزيد من الضرائب في البلدان التي يتواجد فيها عملاؤها، ما يعني أن هذا الجزء من الاتفاق لم يتم الاتفاق عليه بعد.
لذلك، إن تهديد فون دير لاين بفرض ضرائب جديدة على التكنولوجيا -إلى جانب التي تفرضها بالفعل دول الاتحاد الأوروبي بشكل فردي- قد يدفع واشنطن إلى البحث عن حل عالمي.
وفي مقابلة مع صحيفة "فايننشيال تايمز"، قال الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ماتياس كورمان إن "الولايات المتحدة تشارك بنشاط في المناقشات".
وفي إشارة إلى الانفتاح، كلّف سفراء الاتحاد الأوروبي الـ27 مسؤولي الضرائب بإعداد مقترحات جديدة في محاولة لتخفيف مخاوف واشنطن بشأن جزء منفصل من الاتفاق، بحسب ما ذكره دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي، الأربعاء.
وحتى الآن، يعارض المسؤولون الأمريكيون آلية تسمح للموقعين على الاتفاق باستعادة عائدات الضرائب من الشركات التي تدفع أقل من معدل الضريبة العالمي البالغ 15%.
تصعيد وهمي
يهدف التهديد بفرض ضرائب على شركات التكنولوجيا الكبرى إلى دفع ترامب إلى طاولة المفاوضات والتشجيع على إبرام صفقة تجارية. لكن المنتقدين يخشون أن تسير الأمور على نحو مختلف، فالضرائب الرقمية قد تُثير رد فعل مضادًا من الولايات المتحدة، ما قد يتطور إلى حرب تجارية شاملة مع أوروبا.
ومن شأن ذلك أن يؤثر سلبًا على النمو في جميع أنحاء الكتلة الأوروبية، وخاصة في بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا التي تعتمد بشكل كبير على الصادرات إلى الولايات المتحدة.
ويقدر البنك المركزي الأوروبي أن الرسوم الجمركية الأحادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة من شأنها أن تؤثر على معدل نمو منطقة اليورو بنحو 0.3 نقطة مئوية في العام الأول، وبنحو 0.5 نقطة مئوية إذا ردَّ الاتحاد الأوروبي بالمثل.
ولأن فون دير لاين تعلم ذلك، يبدو أنها خففت من حدة خطابها، إذ قالت، الأربعاء، في مقابلة مع صحيفة "دي تسايت يوم" الألمانية: "نحدد موقفنا بوضوح، والأمريكيون يفعلون الشيء نفسه، وهذا هو جوهر أي مفاوضات: لا شيء متفق عليه حتى يتم الاتفاق على كل شيء".