فضيحة تسريب جديدة من قلب الجهاز الأمني الأقوى في إسرائيل تضرب دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ سجَّلت اعترافات صادمة لأحد قادة جهاز الشاباك الإسرائيلي، يُقِرّ فيها باعتقال يهود في الضفة دون أدلة، ويصفهم بعبارات فاحشة تنضح بالتحقير.
تقرير صادم نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، نقلًا عن تسجيل مسرّب بثّته قناة "كان" الرسمية، كشف عمّا يدور في الكواليس السوداء لممارسات الشاباك في الضفة الغربية (المحتلة)، وأشعل سجالًا سياسيًا وأمنيًا واسعًا داخل المؤسسة الإسرائيلية.
اعترافات صادمة
في تسجيل صوتي مسرّب، اعترف رئيس القسم اليهودي في جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) أن الاعتقالات تجري بحق يهود ومستوطنين في الضفة الغربية "بدون أي أدلة"، مشيرًا إلى أنّ الأمر يتم أحيانًا لـ"مجرد التحقيق معهم"، كما أطلق أوصافًا مهينة بحق الموقوفين، واصفًا إياهم بـ"العاهرات" و"الأوغاد".
وبحسب ما ورد في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن الضابط الكبير قال في حديثه المسجَّل: "نعتقل هؤلاء الأوغاد حتى من دون أدلة، فقط لبضعة أيام كي نحقق معهم"، وأضاف بلهجة استعلائية: "يُفضّل أن نضعهم في زنازين مع الفئران".
هذا التصريح ليس مجرد زلة لسان، بل يأتي في سياق سياسة اعتقال ممنهجة تُمارس باسم الأمن في دولة الاحتلال، فيما تُخالف بشكل سافر كل الأعراف القانونية، إذ ذكرت "يديعوت أحرونوت" أن قائد لواء الشيعة، المقدم أفيشاي معلم، حذّر المسؤول الأمني من هذه الممارسات قائلًا: "سوف يمزقوننا بسبب هذا"، لكن الرد كان صادمًا: "مكتب الشاباك يتعامل مع الأمر أمام وزير الدفاع".
تهرب من المساءلة
على وقع هذه العاصفة، أعلن رئيس القسم اليهودي نفسه تعليق مهامه حتى نهاية التحقيق، وكتب في بيان رسمي: "لقد ارتكبت خطأ لا يتفق مع قيم الخدمة ولا مع قيمي الشخصية، أوقف نفسي عن العمل حتى انتهاء التحقيق الكامل في الأمر".
ورغم محاولته تلطيف الصورة، فإن اعترافه الضمني يُعزز من مصداقية التسريبات، ويطرح تساؤلات حرجة حول ثقافة جهاز الشاباك والغطاء السياسي الذي يُمارس في ظله.
من جهته، حاول رئيس الشاباك، احتواء الفضيحة عبر اتصال برئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، يولي إدلشتاين، ودعا اللجنة لزيارة القسم اليهودي في الجهاز، مؤكدًا أن "جميع العمليات تتم وفقًا للقانون".
لكن هذه المحاولة لم تقنع مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي شنَّ هجومًا لاذعًا على الشاباك، واعتبر أن الجهاز "يعمل كما تعمل أجهزة المخابرات في الأنظمة الديكتاتورية"، وجاء في بيان لمكتب نتنياهو: "لن تكون هناك حكومة ظل مظلمة داخل إسرائيل، هذا التسجيل يُشكّل خطرًا حقيقيًا على الديمقراطية".
وأشار مكتب نتنياهو أيضًا إلى أنّ رئيس الشاباك الحالي، الذي أقالته الحكومة، لا يملك الصلاحية للتحقيق في القضية، لأنه متورط فيها، مضيفًا: "بعد أن اتهم رونين بار رئيس الوزراء زورًا في إعلانه أمام المحكمة، فإنه يسعى لإخفاء الحقيقة".
وزراء يتدخلون والتحقيق يشتعل
فضيحة التسريبات لم تتوقف عند حدود الجهاز الأمني، بل انتقلت إلى ساحة الصراع السياسي، فوزير العدل الإسرائيلي ياريف ليفين وجّه رسالة إلى المستشارة القانونية لنتنياهو، جالي بهاراف، طالبًا منها توضيح موقفها من التسجيلات، ومستنكرًا صمتها المريب تجاه هذه الانتهاكات، وكتب يقول: "هل كنتِ على علم بهذا السلوك؟ ولماذا لم تُتخذ أي إجراءات؟".
أما وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش ووزيرة المستوطنات أوريت شتروك، فقد طالبا بعقد اجتماع عاجل لمجلس الوزراء السياسي-الأمني، لمناقشة "سلوك جهاز الأمن العام تجاه المستوطنين اليهود في الضفة الغربية"، بحسب ما ورد في الرسالة التي نشرتها "يديعوت أحرونوت".
لم تقتصر ردود الأفعال على السياسيين، فقد قال وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير إن التسجيل المسرّب "يُشكّل زلزالًا سياسيًا وأمنيًا"، وطالب بإقالة رئيس القسم اليهودي فورًا، مؤكدًا أن "القسم يعمل كمنظمة مافيا تُلاحق المستوطنين وتخيط ملفات لضباط شرطة رفضوا الانصياع لها".
وأضاف بن جفير أن جهاز الشاباك "يتجسس على الشرطة ومصلحة السجون، ويستخدم الجيش كذراع تنفيذية"، في تصريحات نارية تكشف عمق الأزمة والانقسامات داخل المؤسسة الإسرائيلية.
الفلسطينيون في قلب المعاناة
رغم أن الضجة الإعلامية والسياسية تركزت على اعتقال مستوطنين يهود، إلا أن ما كُشف يُسلّط الضوء أيضًا على الطريقة التي يُعامل بها الفلسطينيون في الضفة الغربية، فحين يعترف ضابط رفيع في جهاز أمني باعتقال أشخاص دون دليل، وبإيداعهم في زنازين غير إنسانية، فهذا يعني أن ما هو مسرّب بشأن اليهود قد يكون مضاعفًا بحق الفلسطينيين، الذين لا يتمتعون بأي غطاء قانوني أو سياسي.
وهنا تبرز المفارقة حين يُحتجز مستوطن يهودي دون دليل، تُثار الدنيا ولا تقعد، وتُعقد الجلسات، وتُكتب الرسائل الرسمية، وتُحرك التحقيقات، أما حين يُعتقل فلسطيني بالممارسات ذاتها، فإن الأمر يُمرّر كجزء من "الروتين الأمني" المبرّر دائمًا.
إسرائيل بين القانون واللا قانون
التسريبات التي كشفتها قناة "كان" وأكّدت تفاصيلها صحيفة "يديعوت أحرونوت" تُعدّ من أخطر ما تم تداوله في الشأن الأمني الإسرائيلي منذ سنوات، فهي لا تتحدث عن اجتهادات فردية، بل عن سياسة اعتقال ممنهجة، وإقرار داخلي بأن "العدالة" باتت وسيلة ضغط، وأن القانون لم يعد سوى واجهة تُزيّن بها دولة الاحتلال صورتها أمام الخارج.