سجّل الممثل المصري سليمان نجيب حضوره في الفن المصري، واكتسب أرضية لم يستطع الكثير من الممثلين الوصول من خلالها لشعبية كبيرة، إذ جسّد في معظم أعماله دور الباشا أو البك، صاحب المركز الاجتماعي المرموق مرتديًا الملابس الفاخرة، رغم أن هذه النوعية من الأدوار لا تحظى بنفس حالة التماهي التي تحققها أدوار الشاب أو الرجل البسيط مع العامة، إذ تخلق الأخيرة حالة تعاطف كبيرة من قِبل الجمهور ويصير أبطالها الأقرب لهم.
ابن الذوات الأرستقراطي سليمان نجيب ولد في مثل هذا اليوم عام 1892، وتوفي والده الأديب والشاعر مصطفى نجيب ولم يكن الفنان الصغير تخطى العاشرة من عمره بعد، لكن والده ساهم كثيرًا في تكوينه بفضل الأشعار والروايات التي تركها، وأيضًا بفضل ما كان يسمعه من والدته عن سيرة الأب ومشاركته في جهود الحركة الوطنية ضد الاحتلال البريطاني، وله قصائد وطنية عديدة منها "تهون الشعوب ولا تهزم".
كانت تطمح والدة سليمان نجيب في أن يواصل الابن مشوار والده، في وقت كان المجتمع لا يعترف بالفنان ولا تؤخذ شهادته في المحكمة، وكلمة "مشخصاتي" لا تليق بالعائلة الارستقراطية، لكن سليمان نجيب بعد ما تدرج في المناصب الحكومية الرفيعة بوزارات منها الأوقاف والعدل وتعيينه القنصل المصري في إسطنبول، سلك طريقًا مغايرًا عبر المسرح والإذاعة والسينما.
الباشا فقط
من كثرة تجسيد سليمان نجيب لأدوار ابن الذوات صاحب المركز الاجتماعي المرموق، اكتفى بعض المخرجين بإطلاق اسم "الباشا" عليه في أفلامهم دون تسمية الشخصية، ونرى ذلك واضحًا في فيلمه الأشهر "غزل البنات" عام 1949، فطوال المشهد الذي يجمعه ببطل العمل نجيب الريحاني أو "أستاذ حمام مدرس اللغة العربية" نسمعه يناديه بـ"الباشا"، واللافت للنظر أن بعض الفنانين بالفيلم ظهروا بأسمائهم الحقيقية في مقدمتهم ليلى مراد باسم "ليلى" ومحمد عبد الوهاب بشخصيته الحقيقية وأيضا يوسف وهبي، أما أنور وجدي فظهر باسمه المفضل "وحيد" الذي صاحبه في نحو 12 فيلمًا.
الأمر نفسه نراه في فيلم "فاطمة" بطولة أم كلثوم، وأنور وجدي وإخراج أحمد بدر خان، فصنّاع السينما اكتفوا أحيانًا بأن يشيروا إليه باسم الباشا فقط، بل إن زملاءه في الوسط الفني كانوا ينادونه بـلقب سليمان بك نجيب حتى بعد زوال الملكية وإسقاط الألقاب، وإلى وقتنا هذا نجد إعلاميين وفنانين يفعلون الأمر نفسه في مواضع ذكر سيرته.
أبرز من جسّد أدوار الباشا والبك في السينما المصرية، تمرد على هذا النمط بين الحين والآخر، خصوصا في أيام حياته الأخيرة، ليذهب إلى شخوص مختلفة يتحدى فيها نفسه تمثيليًا، ليمنحه مخرجون هذه الفرص منهم محمد كريم مراهنًا عليه في دور ناظر محطة سكة حديد بفيلم "جنون الحب" الصادر عام 1954 مع عماد حمدي ورقية إبراهيم، وأيضًا دوره الشهير في فيلم "الأنسة حنفي" بطولة إسماعيل ياسين.
سليمان نجيب والهانم تحية كاريوكا
تأثير سليمان نجيب الفني لا يتوقف فقط عند حد تقديم أدوار تمثيلية، بل يمتد إلى إسهاماته البارزة في تطوير دار الأوبرا المصرية بعد رئاسته لها عام 1938، ويعد ثاني رئيس مصري للأوبرا، عقب منصور غانم الذي لم يستمر سوى عام واحد فقط.
أيضًا كان لسليمان نجيب دور مهم جدًا في صناعة السينما والفنان بشكل خاص، يتمثل في كونه الجسر الذي تعبر عليه المواهب الفنية الشابة نحو تكوين شخصية فنية مدعومة بالفكر والثقافة، الأمر الذي من شأنه أن يكون هؤلاء النجوم فيما بعد خير معبرين عن وطنهم، هذا الدور الذي لا نستطيع أن نغفله في مسيرته.
نرى دور سليمان نجيب في إكساب الفنانين شخصية ذات فكر قادرة على التصرف واتخاذ قرارات صائبة ولائقة اجتماعيًا وثقافيًا، وتوجيه الممثل أو الفنان في حياته الخاصة، وأوضح مثال في حياة تحية كاريوكا ليجعلها فنانة وهانم وواجهة مشرفة، إذ قالت في حوار تلفزيوني قديم إن الفنان الراحل صاحب فضل كبير عليها وكان لها بمثابة "الأب الروحي"، فقد تكفل بأن تكمل دراستها للغة الفرنسية وكان يذاكر لها ويقرأ معها كتبًا بالغة الفرنسية، وأيضًا ألحقها بمدارس لتعلم فنون مختلفة ومنها مدرسة كلاسيكية لتتعلم فن البالية، ومن شدة تأثيره في حياتها قالت عنه "جعلني إنسانة ولست راقصة شرقية فقط".