"لست كوميديًا في الحياة العادية.. أنا شخص صارم في قرارتي وواجهت مآسي كثيرة".. بهذه الجملة حاول الفنان المصري الراحل عبد المنعم إبراهيم في لقاء تلفزيوني قديم تصحيح اعتقاد خاطئ أخذه جمهوره عنه، نظرًا لبراعته في تجسيد أدوار الكوميديا بضحكة شهيرة ميزته، لكن هذا لم يمنع أن الانطباع لدى الجمهور لا يزال قائمًا، ولا يعد ذلك الأمر الوحيد الذي يحتاج لتصحيح في حياة النجم الكوميدي، بل إن يوم ميلاده الذي يحتفل به الكثيرون اليوم يخالف الحقيقة، إذ ولد الفنان الراحل في 24 أكتوبر.
ومن عجائب القدر أن حياة الفنان الراحل دارت كلها حول حقيقة ملموسة واعتقاد خاطئ ظن الكثير صحته، حتى هو شخصيًا، فلم يكن عبد المنعم إبراهيم يخطط لأن يصبح ممثلًا شهيرًا بل اعتقد أنه عازف للبيانو في طفولته، حتى عندما بدأ خطواته الأولى في عالم التمثيل، لم يضع في باله أنه سيتجه إلى الكوميديا، لكنها الأقدار التي رسمت للنجم الكوميدي طريقه، إذ كان والده شغوفًا بمسرحيات علي الكسار ويصطحبه إلى عروضه المسرحية، وعمره لم يكن تجاوز 9 سنوات فقط، ليتابع إعجاب الجمهور بالفنان النوبي الشهير وضحكاتهم في صالة العرض، ودون أن يدرى مدى حبه للفن، كان يجتمع مع أصدقائه الأطفال في قريته "ميت بدر حلاوة" بمحافظة الغربية في مصر، ليُقدم ما يشبه العروض المسرحية، مستعينًا بإكسسوارات بسيطة ومستلهمًا أحداثًا وشخصيات من قريته ومجتمعه الصغير يُصيغها في قالب درامي، ومنها شكاوى الفلاحين لعمدة القرية، ومشكلات الزراعة والأرض والحصاد.
حتى هذه اللحظات كان الأمر بمثابة مزاح بين الأطفال، ولم يكن في مخيلته أنها فقط البداية، إذ اختاره مدرس اللغة العربية ليُشارك في مسرحية ضمن مسابقة بين المدارس الإبتدائية على مستوى المحافظة، ورغم أن الجُمل الحوارية كانت عبارة عن أبيات شعرية باللغة العربية الفصحى، نال عبد المنعم إبراهيم إشادة كبيرة من الحاضرين ونال جائزة عن دوره أيضًا.
وبعد التخرج في المدرسة الثانوية اعتقد الجميع أن عبد المنعم مدبولي سيستمر في وظيفته بوزارة المالية، لكن الحقيقة أن مشهد تصفيق الجمهور له وإعجاب مُدرسه بقدراته واستلامه للجائزة ظل حاضرًا في ذهنه، ليُقرر مواصلة هوايته، وتمر السنوات ويتعرف على ابن الفنان عبد العزيز خليل ويأخذه الأخير إلى عبد المنعم مدبولي، ويُشارك معه في مسرحية بعنوان "الضحية" على مسرح الأزبكية بوسط القاهرة، ليزيد طموح الشباب بعد ذلك، خصوصًا عندما أخرج لهم جورج أبيض -ذائع الصيت وقتئذ- عرضًا بعنوان "ولاد السفاح" عام 1941.
دفع الطموح عبد المنعم إبراهيم للتقديم بالمعهد العالي للفنون المسرحية، الذي كان أنشئ لتوه بعد 10 سنوات من المحاولات من قِبل رواد الفن باءت كلها بالفشل لعدة أسباب، أبرزها رفض القوى المتشددة في المجتمع حينئذ للتمثيل وتحريمه أيضًا، ليحتضن المعهد موهبة الفنان الكوميدي الجديد ويتتلمذ على أيدي الرواد زكي طليمات وجورج أبيض وحسين رياض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني.
من مفارقات القدر أن الفنان الكوميدي الذي طالما أضحك جمهوره، عانى في حياته من أزمات كثيرة واجهته، لكن يبدو أن رحلته مع المعاناة ترجمها إلى إبداع فني، وأكسبته خبرة في تجسيد الأدوار التراجيدية، ليجمع بين النقيضين ويُحرّك مشاعر جمهوره بين الضحك والبكاء، فالفنان الشاب وقتئذ وقبل 48 ساعة من الاختبارات النهائية للقبول بالمعهد كان يستقبل العزاء في والدته، ليذهب بعدها إلى الاختبارات وبدلًا من أن يقدم دورًا كوميديًا تدرب عليه، فاجأ لجنة التحكيم بدور تراجيدي بأداء متميز جعلته ضمن الـ20 شخصًا المقبولين، ويتخرج فيه عام 1949.
كما أن ظروف وفاة زوجته الأولى ومعاناتها من مرض شديد، جعلته قادرًا على استحضار هذه اللحظات لتقوية أدائه التراجيدي الذي ظهر في العديد من الأعمال الدرامية، بل إنه في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، مزج بين الأداء الكوميدي والتراجيدي، خصوصًا في مشهد وفاة والدته، ورغم أن جُملة الإبداع يُولد من رحم المعاناة، من "الإكليشيهات" المحفوظة لكنها هنا تعبر بالفعل عن الفنان الراحل.
ويعد الفنان عبد المنعم إبراهيم من نوعية نجوم الكوميديا المؤمنين بأن الهدف ليس فقط الإضحاك بل أيضًا يجب أن يكون هناك رسالة يحملها العمل الفني، لذا لم يستمر كثيرًا في تجربته مع فرقة إسماعيل ياسين لتقديم الكوميديا الفارس- نوع من الكوميديا يعتمد على المبالغة في الحركات والأداء- وعاد إلى بيته في المسرح القومي بالخمسينيات من القرن الماضي لتقديم الكوميديا الاجتماعية، على النقيض من صديق البدايات ورحلة الكفاح المشترك عبد المنعم مدبولي، إذ تميز الأخير بـ"الكوميديا الفارس".
نجح عبد المنعم إبراهيم أن يجعل الجمهور يصدق أداءه باللغة العربية الفصحى على خشبة المسرح في روايات عالمية وعربية شهيرة، ومنها مسرحيات "مسمار جحا" للشاعر والروائي المصري أحمد علي بكثير، و"البخيل" للأديب الفرنسي موليير، و"حلاق بغداد" للكاتب المصري ألفريد فرج، ومثلما تفاعلوا معه على خشبة المسرح، أضحكهم بأداء كوميدي أيضًا بالفصحى في قاعات السينما بشخصيات الأستاذ "حِكَم" مدرس اللغة العربية في "السفيرة عزيزة"، و"عبد البر عبد التواب" في "إسماعيل ياسين في الأسطول".
أجاد عبد المنعم إبراهيم تجسيد أدوار البطولة الثانية، أو صديق البطل، في أفلام منها "الوسادة الخالية" و"شارع الحب"، ليظهر للمرة الأولى في دور البطولة المطلقة بفيلم "أيامي السعيدة" ولم ينل نصيبًا من النجاح، ثم يُسند إليه المخرج نيازي مصطفى مهمة البطولة المطلقة في فيلم "سر طاقية الإخفاء" عام 1959، ونجح من خلاله في إضحاك الجمهور بشخصية "الصحفي عصفور قمر الدين" الذي يعثر على طاقية تجعله يختفي عن الأنظار ليحقق بها انفرادات صحفية ويترقى في مجال عمله.
وظن وقتها الجميع أن عبد المنعم إبراهيم سيترقى أيضًا في مجال العمل، لكن الحقيقة أن ذلك الأمر لم يصادفه تارة أخرى في السينما، ليعود لأسباب غير معلومة لأدوار البطل المساعد، في إشارة إلى أن الأقدار مستمرة في تخطيط طريق مرسوم بعناية للفنان الذي قدّم بعد ذلك أعمالًا منها "سكر هانم" و"الزوجة 13" و"غرام في الكرنك" وغيرها من الأعمال، ليرحل عن عالمنا عام 1987 بعد رحلة فنية طويلة ومليئة بالنجاحات.