تشهد الساحة السياسية الفرنسية حالة من التوتر الشديد، إثر تصريحات رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، الرافضة لعودة سن التقاعد إلى 62 عامًا، بعد أن تم رفعه إلى 65، وهو ما أثار موجة غضب عارمة بين النقابات العمالية وأحزاب اليسار، خاصة بعد أن وعد بإجراء مشاورات مفتوحة "دون محرمات أو قيود".
صراع الأولويات
تشير صحيفة "ليزيكو" الفرنسية إلى مواصلة بايرو السير على حبل مشدود بين المطالب المتعارضة، إذ إنه من جهة يؤكد أهمية إشراك الشركاء الاجتماعيين في الحوار، ومن جهة أخرى يضع خطوطًا حمراء حول إمكانية العودة إلى سن التقاعد السابق.
وصرّح في مقابلة مع إذاعة "فرانس إنتر": "أعتقد أنه في أوقات صعبة كهذه، لا يمكننا الاكتفاء بالسلطة السياسية لحل المشكلات، خاصة عندما لا نملك أغلبية برلمانية وفي بلد مركزي مثل فرنسا".
وبحسب ما نقلته الصحيفة الفرنسية، فإن بايرو يعتبر أن "الحكومات السابقة أخطأت لسنوات في استبعاد الشركاء الاجتماعيين" من عملية صنع القرار، في محاولة واضحة لاستمالة النقابات العمالية للمشاركة في الحوار.
وعندما سُئل عن إمكانية إعادة سن التقاعد إلى 62 عامًا، كما تطالب النقابات، أجاب بحزم: "لا"، مشددًا على "ضرورة العودة إلى التوازن المالي بحلول عام 2030" لنظام التقاعد في القطاع الخاص.
وتستند هذه المخاوف إلى تقرير محكمة المحاسبات الفرنسية، الذي يحذر من عجز متوقع يتجاوز 6.5 مليار يورو، هذا العام، وقد يصل إلى 15 مليار يورو بحلول عام 2035.
انقسام سياسي حاد
توضح "ليزيكو" أن "بايرو" لم يتردد في إعلان خلافه العلني مع رئيس الوزراء الأسبق إدوارد فيليب، الذي يطمح للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ وصف فيليب، في تصريحات لصحيفة "لو فيجارو"، مبادرة الحوار بأنها "منفصلة تمامًا عن الواقع" و"متجاوزة كليًا"، مشيرًا إلى ضرورة "تخصيص المزيد من الموارد للدفاع عن فرنسا.. ليس فقط بإنتاج القذائف والمدافع، بل بإعادة تعبئة المجتمع الفرنسي".
وانتقد "بايرو" موقف فيليب بشدة، قائلًا: "إدوارد فيليب يعتبر أن الديمقراطية الاجتماعية والشركاء الاجتماعيين أمران يمكن تجاهلهما"، ما يعكس الانقسام العميق داخل الطبقة السياسية الفرنسية حول كيفية إدارة ملف التقاعد.
غضب النقابات
تسببت تصريحات "بايرو" في ردود فعل غاضبة من النقابات العمالية، إذ أعلن ممثل الاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل "CFDT"، إيفان ريكوردو، أن "الاتحاد يعتبر تصريحات فرانسوا بايرو غير مفهومة".
أما الاتحاد العام للعمل "CGT"، فصعّد لهجته وهدد بالانسحاب من المفاوضات.
وقال مفاوض الاتحاد المعني بملف التقاعد، دينيس جرافويل: "هذا أمر فاضح تمامًا، من شأنه أن يجعلنا نعيد تقييم مشاركتنا في هذه المشاورات".
ويأتي هذا في وقت انسحب فيه بالفعل اتحاد "القوة العمالية" (FO) من المفاوضات، بينما تشبثت النقابات الأخرى وممثلو أرباب العمل برغبتهم في مواصلة الحوار.
اتهام بايرو بخيانة الوعود
شنت أحزاب اليسار هجومًا حادًا على موقف بايرو، خاصة وأن الاشتراكيين جعلوا من إعادة فتح ملف إصلاح نظام التقاعد لعام 2023 شرطًا لـ"عدم حجب الثقة" عن حكومة بايرو، التي تفتقر إلى الأغلبية البرلمانية.
وتساءل بوريس فالو، رئيس الكتلة الاشتراكية في الجمعية الوطنية: "هل ينوي فرانسوا بايرو إضافة قسوة خيانة الكلمة المعطاة.. والمكتوبة، إلى قسوة الإصلاح الاجتماعي وقسوة اعتماده الديمقراطي؟".
من جانبه؛ اعتبر جان لوك ميلينشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتشدد، أن المفاوضات أصبحت عديمة الجدوى، وكتب على منصة إكس: "انتهى الاعتكاف. بايرو يقول لا لإلغاء التقاعد عند سن 64 عاماً.. بسبب ترامب وبوتين. إنه استخفاف بنا".
محاولات حكومية للتهدئة
في محاولة لتلطيف الأجواء المتوترة، صرّح وزير الاقتصاد الفرنسي، إريك لومبارد، بأن "الأمر متروك للشركاء الاجتماعيين لاتخاذ القرار"، مشيرًا إلى أن القرار الذي سيتخذونه "سيكون له سلطة سياسية كبيرة".
وأضاف لومبارد: "أنا متأكد من أن رئيس الوزراء يعتقد أن الأمر متروك للشركاء الاجتماعيين في النهاية لاتخاذ القرار"، مع اعترافه بأن "العودة إلى سن 62 عامًا لها تكلفة مرتفعة"، مستدركًا بأن "هناك تدابير أخرى يمكن أن تعوض عن تعديل السن".
من جانبها؛ أكدت وزيرة الحسابات العامة، أميلي دي مونتشالان، أن "التقاعد عند سن 62 عامًا غير واقع في ظل الظروف المالية الحالية"، مدافعة عن رغبة بايرو في "الثقة بالشركاء الاجتماعيين".
مستقبل غامض لنظام التقاعد
وبحسب ما نقلته صحيفة "ليزيكو" الفرنسية، تواجه فرنسا معضلة صعبة تتمثل في التوفيق بين الضغوط المالية المتزايدة على نظام التقاعد، والمطالب الاجتماعية بالعودة إلى سن التقاعد السابق.
وتعقد هذه المعادلة التحولات الجيوسياسية الحالية، التي تفرض على الحكومة الفرنسية زيادة الإنفاق العسكري لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة.
ومع استمرار المفاوضات حتى نهاية مايو المقبل، تبقى الأنظار متجهة نحو ما ستسفر عنه هذه المشاورات، وما إذا كانت ستنجح في تحقيق التوازن المطلوب بين الاستدامة المالية لنظام التقاعد والعدالة الاجتماعية، التي تطالب بها النقابات العمالية وأحزاب اليسار.