تُواجه منطقة الساحل الإفريقي مرحلة حرجة من التحولات الجيوسياسية التي تضع الأمن الإقليمي في اختبار صعب، حيث تتصارع القوى الكبرى على النفوذ العسكري والسياسي بالمنطقة. في هذا السياق، يأتي انتقال السيطرة على القاعدة العسكرية في "بورت-بويت" إلى السُلطات العاجية في 20 فبراير 2025، ليُعَبّر عن تحول استراتيجي غير مسبوق في العلاقات العسكرية بين فرنسا وساحل العاج، ويُعَد نقطة مفصلية في إعادة تشكيل الوجود الفرنسي العسكري في إفريقيا عامًة والساحل الإفريقي خاصًة.
هذا التحوُل يُعيد طرح تساؤلات حول كيفية تعامُل فرنسا مع المتغيرات الجيوسياسية في إفريقيا، خاصًة في ظل التقارُب الروسي الأمريكي المتصاعد في القارة. وفي الوقت الذي تشهد فيه بعض الدول الإفريقية موجة من الاستقلالية العسكرية، تمثل ساحل العاج نموذجًا للتعاون المستمر مع فرنسا في إطار جديد من الشراكة الأمنية، إلا أن هذا التحول رغم رمزيته يُسلط الضوء على إعادة تموضع القوات الفرنسية بالقارة؛ ليُعيد رسم خريطة النفوذ العسكري الفرنسي في غرب إفريقيا وساحلها.
تأسيسًا على ما تَقَدَم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: كيف قامت فرنسا بإعادة تموضُع وجودها العسكري في إفريقيا؟
قواعد فرنسية مفقودة في الساحل الإفريقي
شهدت منطقة الساحل الإفريقي تراجُعًا كبيرًا في الوجود العسكري الفرنسي خلال السنوات الأخيرة، فبينما كانت فرنسا طوال عقود من الزمن القوة العسكرية الرئيسية بالمنطقة بوجود قواعدها العسكرية ومنصاتها اللوجستية، لكن تغيرت الأوضاع من خلال:
(&) طَرْد القوات الفرنسية: عقب سلسلة من الأحداث السياسية والاجتماعية في العديد من دول الساحل الإفريقي، قررت فرنسا تقليص وجودها العسكري تدريجيًا في بعض البلدان. في عام 2013، أطلقت فرنسا عملية "سرفال" في مالي لكبح الوجود الإرهابي، لكن لاحقًا تم استبدال هذه العملية بـ"عملية برخان" في عام 2014، التي كانت تهدف لمواجهة التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي. وشهدت فرنسا تراجعًا ملحوظًا في العديد من دول غرب إفريقيا، حيث انسحبت قواتها بشكل تدريجي من مناطق كانت تحت نفوذها العسكري لعدة عقود. في أغسطس 2023، أعلنت مالي عن طرد القوات الفرنسية بعد سنوات من التعاون العسكري في إطار مكافحة الإرهاب، تبعتها بوركينا فاسو، التي طلبت مُغادرة القوات الفرنسية في نفس العام. وفي نوفمبر 2023، قررت النيجر اتخاذ خطوات مماثلة بطرد القوات الفرنسية، مما عزز التوترات مع باريس. علاوة على ذلك، في ديسمبر 2023، أعاد الجيش التشادي السيطرة على قاعدة فايا العسكرية، بعد إعلان الحكومة التشادية في 28 نوفمبر عن إلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا. هذه التحولات، التي تمت بالتوازي مع الدعوات المُتزايدة لإغلاق القواعد العسكرية الفرنسية، تُشير إلى تحول كبير في العلاقات بين فرنسا وهذه الدول.
(&) التحول في العلاقات الفرنسية العاجية: أعادت ساحل العاج رسميًا السيطرة على قاعدة "بورت-بويت" في فبراير 2025، بعد اتفاق بين وزيرَي الدفاع الفرنسي والإيفواري. هذه القاعدة، التي كانت تمثل رمزًا للنفوذ العسكري الفرنسي في غرب إفريقيا، شهدت رفع العلم الإيفواري وتغيير اسمها إلى "معسكر توماس داكوين واتارا"؛ تكريمًا لأول رئيس أركان للجيش الإيفواري. ورغم الانسحاب الفرنسي الجزئي، سيبقى نحو 100 جندي فرنسي في ساحل العاج؛ لتقديم التدريب وتعزيز التعاون العسكري المشترك. وقد تم تأسيس أكاديمية عسكرية في معسكر "بورت-بويت" في يناير 2025؛ لتدريب القادة العسكريين الإيفواريين؛ مما يقلل من الحاجة للسفر إلى الخارج. هذا التعاون الجديد يركز على التدريب المشترك والتمارين العسكرية، حيث أكد العقيد الفرنسي إيفرت، الذي يقود مفرزة الجيش الفرنسي في كوت ديفوار، أن التعاون بين الجانبين، يُعَزز الخبرات ويتيح فرصًا فريدة. ورغم أن الانسحاب الفرنسي في ساحل العاج يسير بسلاسة، إلّا أنه يعكس التراجع العام للوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا، استجابة للمطالب المتزايدة بإخلاء القوات من الدول السابقة للمستعمر.
لذا؛ بعد انتهاء عملية برخان في 2022، التي أنهت الوجود العسكري الفرنسي الدائم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تأتي عملية الرحيل من كوت ديفوار، لتؤكد تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا. فإعلان واتارا يعكس تصاعد المشاعر المُعادية لفرنسا في غرب إفريقيا، ويؤكد التزام ساحل العاج بالسيادة الوطنية، بينما يعكس الاتفاق المتبادل بين البلدين رغبة في تنظيم الانسحاب الفرنسي، بما يحفظ مصالح الطرفين في سياق تحولات إقليمية كبيرة.
آخر معاقل النفوذ الفرنسي في الساحل
برغم التحديات التي تواجهها فرنسا بمنطقة الساحل الإفريقي، لكن ما زالت تحافظ على حضورها العسكري بمناطق أخرى؛ مما يعكس استمرار الحاجة للحفاظ على نفوذها بالمنطقة، رغم التغيرات في الديناميكيات السياسية، فنلاحظ:
(&) القوات الفرنسية في جيبوتي: تستضيف جيبوتي 1500 جندي فرنسي منذ عام 2011، وأكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي تاليًا أكبر قوة فرنسية متمركزة بالخارج، وستظل الوحيدة التي لم تتأثر بقرار باريس الأخير بتقليص وجودها العسكري في القارة الإفريقية، على أن تتم إعادة هيكلتها لتصبح منصة انطلاق؛ لتنفيذ مهمات استراتيجية في إفريقيا، باعتبارها قاعدة بحرية وجوية في آنٍ واحدٍ تتيح لفرنسا القدرة على التصدي للتحديات الأمنية في منطقة القرن الإفريقي كمكافحة القرصنة في البحر الأحمر وأمن مضيق باب المندب.
(&) القوات الفرنسية في السنغال: جاء قرار سحب القوات الفرنسية من السنغال؛ استجابة لرغبة داكار في تعزيز سيادتها الأمنية، حيث أعلن الرئيس باسيرو فايي ذلك بعد انتخابه في مارس 2024، وينضم هذا القرار إلى سلسلة من الانسحابات في دول مثل تشاد ومالي والنيجر، بينما لا يزال حوالي 200 جندي فرنسي متمركزين في قاعدتي أوكام وروفسك؛ نظرًا لأهميتهما الاستراتيجية في تأمين الاتصالات العسكرية عبر المحيط الأطلسي وخليج غينيا.
(&) القوات الفرنسية في الجابون: تستضيف الجابون حوالي 350 جنديًا فرنسيًا في إطار الشراكة العسكرية القائمة بين باريس وليبرفيل. ويكمن الدور الأساسي للعناصر الفرنسية في تدريب القوات المسلحة الجابونية وتنفيذ العمليات المشتركة، حيث يتمركز بعض وحدات النخبة الفرنسية هناك كقوة احتياطية سريعة الاستجابة، كما توفر القاعدة الفرنسية في الجابون دعمًا لوجيستيًا حيويًا؛ مما يعزز التنسيق العسكري والتعاون الاستراتيجي بين البلدين.
تقارُب أمريكي روسي
في سياق التقارب الروسي-الأمريكي وتأثيراته على الوجود الفرنسي في إفريقيا، عُقِدَ اجتماع مهم بين الوفدين الأمريكي والروسي في مدينة الرياض يوم الثلاثاء 18 فبراير 2025، بهدف تعزيز العلاقات بين القوتين العظميين ودفعها إلى الأمام، مع التركيز على التوصل إلى حل للصراع المستمر في أوكرانيا. وأكد الاجتماع أهمية التفاهم المتبادل بين الولايات المتحدة وروسيا، بالإضافة إلى تقدير الدور الذي لعبته السعودية في تسهيل هذه المفاوضات.
هذا الاجتماع لم يكن فقط نقطة تحول في العلاقة بين القوتين العظميين، بل كان له تداعيات كبيرة على السياسات العالمية، بما في ذلك في القارة الإفريقية. فمع دخول روسيا إلى إفريقيا بشكل أعمق عبر علاقات سياسية وعسكرية متنامية مع بعض الدول الإفريقية، يجد الوجود الفرنسي في القارة نفسه في مواجهة تحديات جديدة، إذ قد يدفع التقارب الروسي-الأمريكي، بعض الدول الإفريقية إلى إعادة النظر في علاقاتها مع فرنسا، وفتح المجال أمام شراكات جديدة مع موسكو، ما يهدد النفوذ الفرنسي في مناطق استراتيجية عدة، وستتزايد الضغوط على فرنسا للحد من تدخلاتها العسكرية في مناطق مثل الساحل والصحراء.
ختامًا، يُمكن القول إن إعادة تموضُع فرنسا العسكري في إفريقيا ليست عملية أُحادية الاتجاه، بل عملية معقدة تتأثر بعدة عوامل، بما في ذلك التغيرات السياسية والتهديدات الأمنية والتنافس الدولي بين القوى الكبرى. ورغم التراجع الفرنسي المشهود في بعض دول الساحل الإفريقي، فإن تواجُدها في بعض المناطق الأخرى مثل جيبوتي وتشاد، يعكس حرصها الكبير على الاحتفاظ بقواعدها العسكرية هناك، كما أن التقارُب الروسي الأمريكي يضع فرنسا أمام تحديات تقتضي منها إعادة النظر في استراتيجيتها العسكرية بالقارة السمراء.