في عالمٍ يضج بالصراعات الدولية، تبرز المحكمة الجنائية الدولية كجهةٍ تسعى إلى تحقيق العدالة ومعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى، غير أن هذه المساعي تواجه تحدياتٍ جسيمة، خاصةً عندما تتعارض العدالة مع المصالح السياسية.
من بين أبرز هذه التحديات، العقوبات الأمريكية المفروضة على المحكمة الجنائية الدولية، التي جاءت ردًا على إصدارها مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت في عام 2023.
مذكرة اعتقال نتنياهو
في أكتوبر 2023، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، على خلفية الحرب العسكرية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، والتي أسفرت عن استشهاد نحو 50 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء.
وردًا على هذا القرار، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، متهمًا إياها بإساءة استخدام سلطتها واستهداف الولايات المتحدة وحلفائه، واعتبر أنه "ليس لها سلطة قضائية" على الولايات المتحدة أو دولة الاحتلال.
وشملت العقوبات تجميد الأصول المالية للمحكمة، ومنع مسؤوليها من دخول الأراضي الأمريكية، وعرقلة وصولهم إلى الأدلة اللازمة لتحقيقاتهم.
وتزامنت العقوبات الأمريكية مع زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، حيث أجرى لقاءات مع الرئيس الأمريكي وأعضاء الكونجرس لتعزيز الدعم الأمريكي لإسرائيل، واعتبر مراقبون أن هذه الزيارة لعبت دورًا كبيرًا في تسريع صدور الأمر التنفيذي، خاصةً في ظل تصاعد التوترات في منطقة الشرق الأوسط، وفق شبكة "أسوشيتد برس".
عقوبات سابقة
لم تكن هذه المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ففي عام 2020، فرضت إدارة ترامب الأولى عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، بسبب تحقيقها في جرائم حرب ارتكبتها جميع الأطراف، بما فيها القوات الأمريكية في أفغانستان.
وأدت هذه العقوبات إلى تجميد حسابات بنسودا المصرفية وإلغاء بطاقاتها الائتمانية، وحتى تجميد أصول أقاربها، وبعد انتخاب جو بايدن رئيسًا، رفعت إدارته هذه العقوبات في محاولة لإعادة تحسين العلاقات مع المحكمة.
توتر تاريخي
تعود جذور التوتر بين الولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية إلى عام 1998، عندما تم تبني نظام روما الأساسي، الذي أُنشئت بموجبه المحكمة، فعارضته الولايات المتحدة، وصوتت ضده إلى جانب ست دول أخرى، بينها إسرائيل والصين، ورغم أن الرئيس بيل كلينتون وقع على المعاهدة لاحقًا، إلا أنه لم يرسلها للتصديق عليها في الكونجرس.
وفي عام 2001، ألغى الرئيس جورج دبليو بوش توقيع الولايات المتحدة على النظام، وأصدر قانونًا يسمح باستخدام "كل الوسائل الضرورية" لتحرير أي مواطن أمريكي تحتجزه المحكمة، وهو ما سُمي بـ "قانون غزو لاهاي".
ازدواجية معايير
رغم معارضة الولايات المتحدة التاريخية للمحكمة الجنائية الدولية، إلا أنها دعمتها في قضايا محددة، مثل مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2023 بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
واعتبر مراقبون، حسب "واشنطن بوست"، أن هذا الموقف يعكس ازدواجية في السياسة الأمريكية، إذ تُدعم المحكمة عند استهداف خصوم واشنطن، بينما تُحاربها عندما تستهدف حلفاءها أو جنودها.
وافتتح المدعي العام الحالي للمحكمة كريم خان، تحقيقات حول جرائم الحرب المحتملة في أوكرانيا، متهمًا القوات الروسية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كما فتحت المحكمة ملفات تحقيق تتعلق بجرائم في أفغانستان، إلا أن الضغط الأمريكي أثر على سير هذه التحقيقات.
ورغم رفع العقوبات الأمريكية في عهد بايدن، لا يزال البنتاجون يمنع تبادل الأدلة مع المحكمة خوفًا من أن يُستخدم ذلك لاحقًا ضد المواطنين الأمريكيين.