بينما يهلل العالم لأي بصيص أمل يلوح في أفق الحرب الإسرائيلية على غزة، يبقى الواقع على الأرض أكثر تعقيدًا وبشاعة مما يتخيله الكثيرون، إذ لا يعدو وقف إطلاق النار الأخير الذي جاء بتنسيق أمريكي ضمن إطار مصالح إقليمية أوسع، كونه استراحة عابرة في مشهد مستمر من الإبادة الجماعية وسياسات الأرض المحروقة.
وكشف تقرير نشرته مجلة "+972" الإسرائيلية عن خفايا الاتفاق الأخير، إذ يُظهِر أن دوافعه لم تكن إنسانية أو أخلاقية بقدر ما كانت مدفوعة بمصالح أمريكية وإسرائيلية تسعى لترسيخ وقائع جديدة على الأرض.
تاريخ في انتهاك الاتفاقات
لم يتردد ستيفن ويتكوف، مبعوث الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، في تجاهل الحساسيات الثقافية والدينية، وأصر على لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم السبت، رغم أنه عطلة رسمية في إسرائيل، وأدرك نتنياهو خطورة الأمر، فاستجاب بسرعة والتقى ويتكوف، الذي انتقل لاحقًا إلى قطر للدفع نحو اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
نجح ويتكوف في ما عجزت عنه إدارة بايدن طوال أكثر من عام، وتوصل الطرفان إلى اتفاق هدنة مرحلي يشمل تبادل أسرى فلسطينيين بمحتجزين إسرائيليين، مع الانسحاب الإسرائيلي التدريجي من قطاع غزة.
وحسب مجلة "+972" الإسرائيلية، يشكك الكثيرون في قدرة هذا الاتفاق على الصمود، نظرًا لتاريخ إسرائيل الطويل في انتهاك اتفاقات وقف إطلاق النار، والضغوط السياسية الداخلية لاستمرار الحملة العسكرية.
مكاسب ترامب
أثبت ترامب أنه لا يتقيد بقيود أيديولوجية أو التزامات أخلاقية، بل يتبنى نهجًا عمليًا يرتكز على المكاسب الملموسة، فبالنسبة له كان وقف إطلاق النار فرصة لتعزيز صورته كرجل صفقات، خصوصًا بعد إخفاق إدارة بايدن في التوصل إلى حل للصراع.
ورغم ذلك، لم يخلُ الأمر من حسابات المكافأة، وأظهرت مجلة "+972" أن ترامب وعد نتنياهو بحزمة مكاسب ضخمة مقابل تعاونه، من بينها رفع العقوبات عن برنامج التجسس الإسرائيلي "بيجاسوس"، ودعم المستوطنات في الضفة الغربية، وصولًا إلى تمهيد الطريق لضم أراضٍ جديدة أو حتى مواجهة مباشرة مع إيران.
غزة.. الثمن الباهظ
لا يمكن الحديث عن وقف إطلاق النار دون الإشارة إلى الكارثة الإنسانية التي سبقت الاتفاق، فخلال الأشهر الماضية قتلت الحملة العسكرية الإسرائيلية عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ودمرت أحياء بأكملها في قطاع غزة، بهدف إعادة تشكيله بما يخدم الأجندة الإسرائيلية.
ووفق التقرير، استولت دولة الاحتلال على أكثر من 30% من أراضي غزة، وهدمت أحياء بأكملها ضمن خطة "الجنرالات"، التي تهدف إلى إخلاء شمال القطاع من سكانه وبناء مستوطنات يهودية مكانها، كما فرضت إسرائيل مناطق عازلة وممرات أمنية تقسم القطاع إلى أجزاء، ما يحوّله إلى مجموعة من السجون المكتظة بالسكان الذين يعيشون في ظروف لا تطاق.
وفي الضفة الغربية، تزايدت هجمات المستوطنين المدعومة من جيش الاحتلال، بينما انخرطت السلطة الفلسطينية في قمع أي مقاومة فلسطينية، مما عزز من قبضة الاحتلال وأضعف أي محاولات لصد هذه السياسات.
استراحة للدمار أم نهاية للصراع؟
رغم أن الهدنة، إذا استمرت، قد تنقذ أرواحًا على المدى القصير، فإنها تكرس واقعًا جديدًا لا يقل مأساوية، فقد أُجبر معظم سكان غزة على النزوح إلى معسكرات مكتظة في جنوب القطاع، حيث يخضعون لرقابة مشددة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتشير مجلة "+972" إلى أن هذه الظروف تهيئ الأرضية لعملية تطهير عرقي بطيئة ولكن منهجية.
الإبادة الجماعية لا تتم فقط بالقنابل والرصاص، فالأمراض وسوء التغذية والصدمات النفسية الناتجة عن الحصار المستمر والدمار الواسع ستظل تحصد الأرواح لسنوات قادمة، وإعادة بناء غزة، التي تحولت إلى أنقاض مسممة وغير صالحة للحياة، قد تستغرق عقودًا، إذا ما أُتيحت لها الفرصة أصلاً.
الحقيقة المُرَّة
تؤكد مجلة "+972" أن وقف إطلاق النار الحالي ليس إلا قناعًا لسياسات أكثر قسوة، فدولة الاحتلال نجحت في تحقيق أهدافها الأساسية، وهي تفكيك غزة وتهميش سكانها، بينما تستعد لخطوات جديدة مثل ضم الضفة الغربية والتصعيد ضد إيران.
ورغم أن الهدنة قد تمنح الفلسطينيين لحظات قصيرة من الهدوء، فإنها لا تعالج الجذور العميقة للصراع، الذي لا يزال يعصف بحياة الملايين، إذ إن "الإبادة الجماعية لا تنتهي بصمت المدافع. إنها تستمر في الأرواح التي تُزهق تحت وطأة الجوع والمرض والدمار، وفي أحلام أجيال بأكملها تُسحق قبل أن ترى النور".