يتوقف مستقبل الدور الصيني في سوريا بعد رحيل بشار الأسد، على عدة عوامل جيوسياسية واقتصادية وأمنية. ويُمكن استشراف هذا الدور بناءً على الموقف الصيني إزاء التطورات الأخيرة على الساحة السورية والمصالح والأهداف الصينية في المنطقة، ومدى القدرة الصينية على التغلب على المعوقات والتحديات التي تحول دون تحقيق هذه الأهداف مستقبلًا.
في هذا السياق، تُثار عدة تساؤلات مثل: ما حقيقة الموقف الصيني تجاه التطورات الأخيرة على الساحة السورية؟ وما دوافع ومبررات الاهتمام والتواجد الصيني مستقبلًا في سوريا؟ وما مصالح الإدارة السورية الجديدة إزاء التعاون مستقبلًا مع الصين؟ وما هي حدود رؤية هذه الإدارة لتلك المصالح؟
موقف صيني حذر
تتبع بكين سياسة الانتظار والترقب؛ من أجل تقييم الأوضاع في سوريا لترسم ملامح علاقاتها مع الحكومة الانتقالية وفتح قنوات الاتصال مع الإدارة الجديدة بقيادة أبي محمد الجولاني. فعلى ما يبدو تنتظر الصين إيجاد حل سياسي في سوريا، واستقرار الأوضاع الأمنية فيها؛ كي تشارك في إعادة الإعمار واستكشاف آبار نفطية جديدة وزيادة استثماراتها.
وترى بكين أن انهيار النظام في سوريا قد يسمح بإعادة ظهور الجماعات المتطرفة والإرهابية، ومن شأن ذلك أن يؤثر على المناطق المجاورة لسوريا، ويهدد الأمن في المنطقة ككل والمصالح الصينية فيها. فبعد أن هاجم المسلحون حلب شهر نوفمبر الماضي، أكدت بكين مجددًا دعمها لنظام الأسد، وأعلنت استعدادها للمساهمة بشكل إيجابي لمنع تدهور الوضع في البلاد. لكنّ الأحداث في سوريا تسارعت بشكل كبير وانتهت في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام بشار الأسد الذي فر إلى روسيا وحصل على اللجوء السياسي.
ويتوافق هذا الموقف الصيني مع دعم بكين المستمر للنظام السوري السابق. ففي المحافل الدولية ومجلس الأمن الدولي، استخدمت الصين حق النقض الفيتو ضد قرارات تدين النظام، ودعت مرارًا وتكرارًا إلى رفع العقوبات الأحادية الجانب غير القانونية، وإلى حل سياسي للأزمة السورية، ورفضت التدخلات العسكرية في البلاد. وعندما زار وزير الخارجية الصيني، وانج يي، سوريا، بعد فوز الرئيس السابق بشار الأسد بولاية رئاسية رابعة عام 2021، دعا المسؤول الصيني إلى التخلي عن وهم تغيير النظام في دمشق. واستقبلت الصين عام 2023 الرئيس الأسد وزوجته بحفاوة، حيث توجّها إلى مدينة هانجتشو الصينية على متن طائرة تابعة لشركة طيران الصين. وخلال رحلته، التقى الرئيس الأسد بالرئيس الصيني شي جين بينج، وتم الاتفاق على رفع العلاقات بين البلدين إلى شراكة استراتيجية.
غايات وأهداف صينية
يُمكن تحديد الأهداف والغايات الصينية إزاء سوريا في مرحلة ما بعد الأسد سواءً في الوقت الراهن أو مستقبلًا، وذلك على النحو التالي:
(*) تحقيق غايات وأهداف اقتصادية: تسعى بكين إلى أن يكون لها موطئ قدم في سوريا بعد استقرار الأوضاع فيها بما يمكنها من البدء بإعادة تطوير حقول النفط المتفق عليها مع الجانب السوري، وتوقيع المزيد من العقود النفطية. وتتخوف الصين أن يؤدي سقوط النظام السوري السابق ووجود حكومة انتقالية إلى رفض أو تغيير الاتفاقيات أو العقود التي أبرمها النظام السابق مع الصين.
وتستهدف الصين كذلك أن يكون لها دور في إعادة الإعمار، وقد أعلنت مرارًا عن رغبتها في ذلك. ففي عام 2017، أكّد المبعوث الصيني الخاصّ حينها إلى سوريا شيه شيا ويان، استعداد بلاده للمشاركة في إعادة إعمار سوريا. وهو ما يتأكد مع طلب الرئيس السوري مساعدة بكين في إعادة الإعمار ورحب بالاستثمارات الصينية.
وهناك أهداف أخرى لبكين ترتبط بموقع سوريا المهم لمبادرة الحزام والطريق الصينية، لذلك تطمح بكين في أن تستثمر في مرفأي طرطوس أو اللاذقية بالاتفاق مع روسيا التي لها قواعد عسكرية في مرفأ طرطوس وقاعدة حميميم في اللاذقية، لذلك من المحتمل أن تكون الصين قد خطّطت لكي تكون لها قاعدة عسكرية في سوريا. كما أثار مشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسوريا اهتمام الصين، لأنها تهدف إلى ربطه بمبادرة الحزام والطريق.
(*) حسم التنافس الأمريكي الصيني في سوريا والشرق الأوسط لصالح بكين: يأتي تقارب الصين من الشرق الأوسط في ظل المنافسة الصينية الأمريكية، وربما ساعد ابتعاد الولايات المتحدة الأمريكية عن دول المنطقة، في بداية ولاية إدارة بايدن، الصين على الانخراط في الأوضاع الأمنية في الشرق الأوسط. ولكن مع عودة اهتمام الإدارة الأمريكية بالمنطقة، وجدت الصين أن الولايات المتحدة ستعارض دخولها إلى الشرق الأوسط، ومع ذلك استمرت في مساعيها لحل بعض النزاعات والخلافات في المنطقة. وفي ضوء ذلك يُمكن تفسير عرض بكين مرارًا وساطتها لحل الأزمة في سوريا وقدمت عدة مقترحات لذلك. ودعمت إلى جانب روسيا وإيران النظام السابق ضد العقوبات الأمريكية المفروضة عليه والتدخلات الخارجية واستخدمت حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التي تدينه. فقد انخرطت الصين، خلال السنوات الأخيرة، بحذر في نزاعات الشرق الأوسط، سواءً عبر التوسط بين السعودية وإيران، أو المساهمة في التقريب بين سوريا والدول العربية، أو استقبال الفصائل الفلسطينية في بكين.
وعلى ما يبدو، يدرك الجانب الصيني أن اللاعبين الإقليميين والدوليين في الشرق الأوسط كثيرون، ولا تريد بكين أن تغوص في مستنقع الصراعات في المنطقة، وترى أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت القوة صاحبة النفوذ فيه، وهو ما أظهرته الأحداث التي وقعت منذ طوفان الأقصى والحرب بين حزب الله وإسرائيل؛ وصولًا إلى التطورات الأخيرة في سوريا وانهيار نظام الأسد. ومن المُحتمل بعد عودة الرئيس ترامب إلى الرئاسة أن يُعاد تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج وبصفة خاصة السعودية، التي تربطها بترامب علاقات قوية وتشهد رئاسته الأولى على ذلك. وبالتالي، ليس مستبعدًا أن يطلب ترامب من دول الخليج تقليل علاقاتها ببكين وبالتالي محاصرة النفوذ الصيني في الشرق الأوسط.
(*) تحقيق أهداف أمنية صينية وشرق أوسطية:
أثار وجود مقاتلي الإيجور في سوريا قلق الصين، التي عملت على عقد محادثات رفيعة المستوى مع دمشق لتبادل المعلومات الاستخباراتية حول تحركات الحزب الإسلامي التركستاني، الذي يضم مسلحين إيجوريين، على أساس شهري بدءًا من عام 2016. ومن المحتمل أن يتوقف هذا التدقيق الاستخباراتي مع سقوط نظام الأسد.
فالصين كانت ترغب في بقاء نظام الأسد، وترى أن الأحداث التي وقعت مؤخرًا وانهيار النظام قد تؤدي إلى اضطراب الأوضاع في المنطقة. وأن ما تقوم به إسرائيل من احتلال للأراضي السورية يفاقم الوضع في سوريا، وهو ما جاء في افتتاحية صحيفة China Daily التي أشارت أيضًا إلى أنه من السابق لأوانه القول إن الوضع سوف يتحسن، وليس هناك ما يضمن أن سوريا لن تصبح ليبيا أخرى، أو مكانًا للاعبين مختلفين لتحقيق مكاسب شخصية، أو بؤرة لإعادة تجميع بعض الإرهابيين المتشددين.
ترى بكين أن انهيار النظام في سوريا قد يسمح بإعادة ظهور الجماعات المتطرفة والإرهابية، ومن شأن ذلك أن يؤثر على المناطق المجاورة لسوريا، ويهدد الأمن في المنطقة ككل والمصالح الصينية فيها. فضلًا عن أن تداخل مصالح الجماعات المسلحة، المدعومة من أطراف خارجية، قد يؤدي إلى حدوث حرب أهلية جديدة وربما تدخل البلاد في المجهول وعدم اليقين.
فعندما سُئل وزير الخارجية الصيني وانج يي، عن موقف الصين من الوضع الحالي في سوريا، أجاب الوزير الصيني أن بكين تدعم سوريا في تحقيق السلام، وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ودفع العملية السياسية الداخلية وفقًا لمبدأ "بقيادة سورية وملكية سورية"، وإيجاد خطة إعادة الإعمار التي تلبّي رغبات الشعب من خلال الحوار الشامل. وأضاف أن سوريا المستقبلية يجب أن تعارض بشدة جميع أشكال الإرهاب والقوى المتطرفة، ودعا إلى رفع العقوبات الأحادية غير القانونية المفروضة على سوريا.
تعارض المصالح
قد يكون من مصلحة الإدارة الجديدة في سوريا التعاون مع بكين نظرًا لحاجتها إلى الاعتراف الدولي بها، وإلى المشاركة الصينية في إعادة إعمار البلاد وإنعاش الاقتصاد السوري عبر القوة الاقتصادية الهائلة للصين. ولكن حصة الصين من سوريا قد لا تكون كبيرة نظرًا لتعدد اللاعبين الفاعلين فيها، وسعي الولايات المتحدة الأمريكية لمنع وجود نفوذ للصين في سوريا.
ويُمكن تفسير ذلك باحتمال اتجاه الصين في المرحلة المقبلة إلى التعامل مع تهديد مسلحي الحزب الإسلامي التركستاني لمصالح الصين، خاصة أن هذا الحزب، الذي ساعد في الإطاحة ببشار الأسد وله علاقة قوية مع هيئة تحرير الشام، قد هدد بنقل المعركة إلى الصين. وهو الأمر الذي من شأنه تعارض المصالح والأهداف بين الأهداف الصينية في سوريا، وبين أهداف ومصالح الإدارة الجديدة فيها. ففي السادس من ديسمبر الماضي، أصدر أمير الحزب الإسلامي التركستاني، عبد الحقّ التركستاني، بيانًا أكد فيه خطط المجموعة لمهاجمة الصين في المستقبل. وبعد يومين، نُشر مقطع فيديو لمسلحين من الحزب الإسلامي التركستاني يحملون رشاشات ويرتدون ملابس عسكرية، وقال رجل منهم إنهم سيستمرون في القتال في "تركستان الشرقية" إقليم شينجيانج كما قاتلوا في حمص وفي إدلب. وبعد أن كان مسلحو الإيجور محصورين إلى حد كبير في محافظة إدلب وضواحيها، وصلوا إلى دمشق وغيرها من المدن الكبرى.
وليس من الواضح ما إذا كان مسلحو الإيجور سيعودون إلى الصين، ولكن لدى بكين قلق من أن المسلحين سوف يستقرون مرة أخرى في باكستان وأفغانستان اللتين أصبحتا ملاذًا آمنًا في السنوات الأخيرة لمختلف المنظمات الإرهابية، بما في ذلك تنظيم داعش في خراسان وحركة طالبان الباكستانية وجيش تحرير بلوشستان، وأيضًا إمكانية سعي واشنطن إلى دعم الحزب الإسلامي التركستاني للعمل ضد الصين، خاصة أن دونالد ترامب أزال الحزب من قوائم الإرهاب عام 2020.
تحديات صينية
تشمل معوقات زيادة الدور الصيني في سوريا بعد رحيل بشار الأسد مجموعة من العوامل السياسية، الاقتصادية، الأمنية، والجيوسياسية التي قد تحد من قدرة الصين على تعزيز نفوذها في سوريا. فبعض هذه المعوقات يرتبط بالتحولات الداخلية التي تشهدها الساحة السورية في الوقت الراهن. فإذا جاء نظام معادٍ للنفوذ الصيني أو مدعوم من الغرب، فقد تواجه الصين صعوبات في الحفاظ على مصالحها وتحقيق أهدافها سالفة الذكر. وهناك تحديات ومعوقات أخرى ترتبط بالضغوط الغربية على الصين. فقد قد تواجه الصين ضغوطًا من الولايات المتحدة وحلفائها للحد من انخراطها الاقتصادي أو السياسي في سوريا.
وفي النهاية، يُمكن القول إن الدور الصيني في سوريا بعد رحيل نظام الأسد سيتحدد بناءً على طبيعة النظام البديل واستعداد هذا النظام للتعاون مع الصين اقتصاديًا وسياسيًا. فمن المرجح أن تسعى الصين للحفاظ على مصالحها الاقتصادية في إعادة الإعمار والبنية التحتية، مع محاولة لعب دور الوسيط المحايد في السياسة الإقليمية. ومع ذلك، ستواجه بكين عدة تحديات لتحقيق هذه المصالح؛ بعضها يرتبط بالداخل السوري وطبيعة النظام السوري مستقبلًا، والبعض الآخر يرتبط بتنافس بكين مع العديد من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في سوريا. خاصة بعد أن أخطأت بكين عندما اعتبرت أن إسقاط النظام السوري وهم، وها هي اليوم تنتظر وتترقب ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا الجديدة. فسقوط نظام الأسد قد يؤثر سلبًا على تحقيق أهداف الصين في سوريا، وقد تشهد الفترة المقبلة تراجع نفوذها فيها لصالح تعزيز نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية.