لطالما اعتُبر لبنان لوحةً تُبرز أصالة التراث الإنساني، لكن هذا الإرث الثري أصبح ضحيةً لنيران النزاعات الإسرائيلية، ففي ظل المواجهات المستمرة بين دولة الاحتلال وحزب الله، لم تعد الأضرار مقتصرة على البشر والبنى التحتية، بل طالت مواقع تراثية تحمل روح الماضي، ما دفع الخبراء ومجموعات الحفاظ على التراث إلى دق ناقوس الخطر.
واقع الدمار.. أرقام وشهادات
وفقًا لتقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز"، تعرّضت تسعة مواقع تراثية في لبنان للتدمير الكامل، بينما تضرر خمسة عشر موقعًا آخر بشكل كبير خلال الهجمات الإسرائيلية بين سبتمبر ونوفمبر 2024.
وأفادت منظمة "بلادي" للحفاظ على التراث الثقافي بأن الدمار شمل مساجد، ومنازل تاريخية، وأسواقًا، وحتى آثارًا رومانية قديمة في مدن مثل بعلبك وصور.
آثار لا تُرى بالعين المجردة
أوضح خبراء الآثار أن الانفجارات القريبة من المواقع التراثية قد تُحدث أضرارًا غير مرئية، وبحسب تصريحات جراهام فيليب، خبير علم الآثار المهددة بالانقراض، فإن الضربات الجوية، رغم عدم استهدافها المباشر لهذه المواقع، قد تُسهم في تسريع تدهور الأحجار القديمة.
وفي بعلبك وصور، وهما من مواقع التراث العالمي لليونسكو، بدا الوضع مقلقًا مع تعرُّض المباني القريبة، التي تعود إلى فترات الانتداب الفرنسي والعصر العثماني، لأضرار بالغة.
اليونسكو وإجراءات الحماية
استجابةً لهذا الوضع الحرج، أعلنت اليونسكو عن تعزيز الحماية لـ34 موقعًا في لبنان. ومع ذلك، أكد فرانشيسكو باندارين، مسؤول سابق في المنظمة، أن الأدوات الدولية الحالية لحماية التراث الثقافي أثناء النزاعات محدودة الفعالية، مشيرًا إلى صعوبة محاسبة الأطراف المتسببة في الأضرار.
لا تزال الذاكرة الجماعية للبنانيين تحمل جراح انفجار مرفأ بيروت عام 2020، الذي خلّف أضرارًا كبيرة في مواقع تراثية عديدة. وفي هذا السياق، تعمل شخصيات مثل نادين بانيوت، أمينة المتحف الأثري بالجامعة الأمريكية في بيروت، على حماية القطع الأثرية عبر تخزينها في مخابئ تحت الأرض، إلا أن الجهود الفردية تواجه تحديات أمام الصراعات المتصاعدة.
قرى الجنوب.. روحٌ تُمحى
يشير سركيس خوري، المدير العام للآثار بوزارة الثقافة اللبنانية، إلى أن الدمار في القرى الجنوبية يمثل الخسارة الأكثر إيلامًا، حيث يعود تاريخ العديد منها إلى آلاف السنين. ويرى خوري أن هذه الخسائر تتجاوز المباني المادية لتطمس الهوية الثقافية العميقة للبلاد، واصفًا إياها بتدمير "روح لبنان".
بينما يُصعّد النزاع من وتيرة الدمار، يبقى التراث اللبناني شاهدًا على عمق الأزمة. وعلى الرغم من الجهود الدولية والمحلية للحفاظ على هذا الإرث، فإن الصراع المستمر يطرح تساؤلات حول قدرة العالم على حماية التراث الثقافي في ظل الحروب. هل ستنجح الإنسانية في إنقاذ تاريخها أم سيظل تراثها عُرضة للنيران؟