خلال زيارة رئيس جمهورية تشاد "محمد إدريس ديبي إيتنو" إلى المنطقة التي تشمل أجزاء من غرب تشاد إلى جانب نيجيريا والنيجر والكاميرون، في الخامس من نوفمبر 2024، أصدر الرئيس التشادي تحذيرًا قاسيًا يشير إلى إمكانية انسحاب تشاد من التحالف الأمني الإقليمي، وجاء هذا التحذير في أعقاب الهجوم الدموي الذي شنّته جماعة بوكو حرام على إحدى القواعد العسكرية في منطقة بحيرة تشاد، الواقعة على الحدود مع نيجيريا، في 28 أكتوبر 2024، ما أسفر عن مقتل نحو 40 جنديًا تشاديًا.
وفي بيان رسمي صادر عن الرئاسة التشادية، أفادت الحكومة بأن الرئيس ديبي توجه إلى موقع الهجوم، حيث أطلق عملية عسكرية تحت اسم "حسكانيت" لملاحقة الجناة. كما زار "ديبي" القاعدة العسكرية الواقعة في جزيرة باركرام، وهي جزء من مستنقعات واسعة كانت تغطيها مياه بحيرة تشاد قبل أن تشهد تراجعًا كبيرًا في مساحتها على مدار العقود الأخيرة، ويُعتبر هذا الهجوم أحد أكثر الهجمات دموية التي تعرض لها الجنود التشاديون منذ عام 2020، حينما أسفر هجوم مماثل عن مقتل نحو 100 جندي، ما دفع الرئيس التشادي آنذاك إلى شن عمليات عسكرية واسعة ضد الجماعات المتشددة في المنطقة.
في سياق موازٍ، وعلى الرغم من تصاعد التوترات الأمنية، نفى المتحدث باسم الحكومة التشادية "عبد الرحمن غلام الله" في 4 نوفمبر 2024، بشدة التقارير التي أفادت بتنفيذ الجيش التشادي هجمات على المدنيين، وخصوصًا على صيادي الأسماك في منطقة بحيرة تشاد، مؤكدًا أن الحكومة التشادية ملتزمة بمبادئ حماية المدنيين، وأن أي ادعاءات بشأن استهدافهم من قِبَل القوات العسكرية التشادية هي ادعاءات غير صحيحة ولا تستند إلى واقع.
تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما دلالات هجوم بوكو حرام على قاعدة عسكرية تشادية؟
أبعاد دالة
يحمل الهجوم على قاعدة باركرام العديد من الأبعاد التي تعكس حجم التحديات التي تواجهها المنطقة، التي تتمثل أبرزها في:
(*) الخلل في التنسيق بين دول التحالُف الإقليمي: يعكس الهجوم الحادث فشل التنسيق بين الدول المشاركة في التحالُف الإقليمي الذي دعا زعماء القارة الإفريقية خلال أعمال القمة الإفريقية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في يناير 2015 إلى تشكيله لمواجهة الإرهاب في غرب إفريقيا، وتلوح تصريحات الرئيس التشادي الأخيرة باستياء عميق من عجز التحالف عن تحقيق نتائج ملموسة، كما تشير إلى احتمال تدهور التعاون العسكري بين الدول المتأثرة بالتنظيمات الإرهابية، ما يزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة برمتها.
إلى جانب ذلك، رغم التقدم الذي أحرزته قوات التحالف الإقليمي ضد "بوكو حرام" في بداية تشكيلها، فإن هناك عدة عقبات تحول دون القضاء على التنظيم بشكل نهائي، وأبرز هذه العقبات تشمل تضارُب الاستراتيجيات بين دول التحالف، ومحدودية القدرات العسكرية لمعظم الجيوش الإفريقية، وتراجُع أولويات الدول المعنية، حيث تسعى كل دولة لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب التنسيق الإقليمي، إضافة إلى ذلك، تعاني الدول من أزمة تمويل حادة، وتخوُفات من انتهاك السيادة الوطنية في ظل قلة الموارد اللوجستية والبشرية. كما أن تدهور الأوضاع الاقتصادية تسهم في تعزيز قوة "بوكو حرام" من خلال تسهيل تجنيد عناصر جديدة، بينما تظل مشاركة بعض الدول في العمليات العسكرية محدودة بسبب مخاوفها من ردود فعل انتقامية من قِبل التنظيم.
(*) البيئة الإفريقية الخصبة لازدهار بوكو حرام: على الرغم من إطلاق العمليات العسكرية ضد بوكو حرام، إلا أن الانتشار الجغرافي الواسع للجماعة، تحديدًا في المناطق الحدودية والمستنقعات على أطراف بحيرة تشاد مثل غابة سامبيسا، والاعتماد على تكتيك العمل في خلايا صغيرة متناثرة لتجنب الضربات العسكرية المركزة من الحكومة، والقدرة على إقامة أوكار محصنة لاحتجاز الرهائن وتخزين الأسلحة، يجعل من الصعب تَعَقُب عناصر بوكو حرام أو القضاء عليها نهائيًا. والدليل على ذلك، أغسطس 2024، أطلق الجيش النيجيري عملية عسكرية مشتركة بمشاركة القوات الخاصة وسلاح الجو النيجيري، إلى جانب قوات من دول حوض البحيرة، بهدف تطهير المنطقة من الجماعة المتشددة. لكن، لا تزال المنطقة تشهد انفلاتًا أمنيًا حادًا نتيجة الحدود الممتدة عبر دول عدة.
فالهجوم على قاعدة باركرام يبعث برسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أن "بوكو حرام" لم تقتصر تهديداتها على نيجيريا فحسب، بل أصبحت خطرًا يهدد دول غرب ووسط إفريقيا بشكل عام، واستمرار العمليات الإرهابية تعزز من احتمالات تفشي الإرهاب عبر الحدود، وتظل منطقة بحير تشاد نقطة ساخنة لتوسُع جماعة "بوكو حرام".
(*) رسالة من التنظيم لاستمرار قدرته على الأرض، وعدم تأثره بالمواجهات الأخيرة: أطلقت قوة العمل المشتركة متعددة الجنسيات في 23 أبريل 2024 "عملية ليك سانيتي 2" التي بدأت بحماسة عالية ونجحت في تحقيق نتائج ملموسة ضد الجماعات المتطرفة التي استهدفت المنطقة لسنوات، وأسفرت العملية عن استسلام 176 عنصرًا من الإرهابيين، إضافة إلى اعتقال 57 آخرين، ومصادرة أسلحة وذخائر ومواد تموين، كما تم تدمير مواقع حيوية للإرهابيين خلال العمليات الجوية التي نفذتها القوات الجوية من نيجيريا وتشاد والكاميرون، وأدى تكامُل الجهود العسكرية مع حملات التوعية المدنية إلى رفع الروح المعنوية للقوات، حيث شهدت العمليات لاحقًا استسلام 263 مقاتلًا من بوكو حرام. وفي أعقاب هذه النجاحات، أكد الحاج سرجوه باه، مدير إدارة الصراع في الاتحاد الإفريقي، أن دحر الإرهاب في حوض بحيرة تشاد يشكل خطوة محورية نحو تحقيق الاستقرار الإقليمي، وتطبيق الدروس المستفادة على مناطق صراع أخرى، مثل منطقة الساحل، فلا شك قيام بوكوحرام بهذا الهجوم على باركرام، جاء من منطلق توصيل رسالة مضمونها أنها جماعة مازالت قوية، ولم تتأثر بعمليات الأخيرة ضدها.
تداعيات مُرتقبَة
يحمل تحذير الرئيس التشادي بالانسحاب من التحالف الأمني الإقليمي، وتنفيذ جماعة بوكو حرام هجمات دامية على القواعد العسكرية، تداعيات مُرتقَبة، تتمثل في:
(*) تعزيز التحالفات الإقليمية: قد تسعى تشاد إلى الانضمام إلى تحالف أوسع يشمل دول الساحل مثل مالي، النيجر، وبوركينا فاسو في إطار "تحالف كونفدرالية دول الساحل"، كما قد تركز نجامينا على تعزيز دورها في مجموعة دول الساحل الخمس (G5) وهي إطار إقليمي يضم تشاد بالإضافة إلى مالي، النيجر، بوركينا فاسو، وموريتانيا، والتي تأسست بهدف التنسيق والتعاون لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة عبر الحدود. فإذا شعر الشعب التشادي أن دول التحالف الإقليمي لم تُسهم بما فيه الكفاية في الدفاع المشترك، فقد يزداد التملمُل الداخلي حول فكرة التعاون العسكري مع جيوش الدول المجاورة، مما يؤدي إلى تهديد وحدة التحالف ويزيد من الضغط على الحكومة لتغيير استراتيجياتها في التعامل مع التهديدات الإقليمية.
(*) إعادة نجامينا رسم خريطة تحالفاتها الدولية: مع كثرة التحديات الأمنية التي تتعرض لها تشاد، وعجز الحكومة عن تحقيق نجاحات ملموسة لمكافحة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، يمكن أن تسعى نجامينا إلى التقارُب مع موسكو، والسير على نهج وخُطى الدول المجاورة كالنيجر ومالي وبوركينا فاسو. فقد قامت روسيا بخطوة مهمة لتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بزيارة رسمية إلى نجامينا في 5 يونيو 2024، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان تشاد إلغاء الاتفاقية الخاصة بالقوات الأمريكية وسحب قوات أمريكية من قاعدة "أدجي كوسى" في 25 أبريل 2024، وهو ما أشار إلى رغبة نجامينا في الانفتاح على موسكو كبديل استراتيجي، ويأتي هذا التوجه في وقت تشهد فيه تشاد تصاعُد الأنشطة الإرهابية في المنطقة، ولا نستبعد خلال الفترة المقبلة استغلال الكرملين الزخم الراهن لنقل العتاد الروسي العسكري وتوزيع عدد من القوات في نجامينا.
في الختام، تعكس الهجمات المستمرة التي تشنها جماعة بوكو حرام ضد القواعد العسكرية التشادية في منطقة بحيرة تشاد عُمق الأزمة الأمنية والإنسانية التي تواجهها المنطقة، حيث أصبحت هذه الهجمات مؤشرًا على تفاقُم التهديدات الإرهابية وتزايُد تعقيد المشهد الإقليمي. كما يُعد الهجوم على قاعدة باركرام من أخطر الهجمات التي تعرض لها الجنود التشاديون في السنوات الأخيرة، ويأتي في وقت بالغ الحساسية حيث تزايدت المخاوف من هشاشة التحالف الإقليمي الذي تم تشكيله لمكافحة الإرهاب. إلى جانب ذلك، تمثل التصريحات التي أدلى بها الرئيس بشأن احتمال انسحاب تشاد من هذا التحالف انعكاسًا للغضب والإحباط نتيجة العجز عن تحقيق تقدم فِعلِي في مواجهة بوكو حرام، ما قد يفتح الباب أمام انهيار التعاون العسكري بين الدول المجاورة، وبالتالي تعقيد الوضع الأمني في منطقة بحيرة تشاد.