بعد أقل من شهر من قرار المجلس الانتقالي في النيجر إلغاء اتفاقية التعاون العسكري مع واشنطن، في يوم الخميس الموافق 25 من أبريل 2024، أعلن ثلاثة مسؤولين أمريكيين باسم وزارة الدفاع الأمريكية عن سحب قوات أمريكية بشكل مؤقت من تشاد، ويأتي القرار موازيًا مع الوضع الأمني المضطرب لسياسة واشنطن في منطقة الساحل الإفريقي، ومحاولات دول إفريقية مجاورة إعادة تشكيل أوسع نطاقًا للوجود الغربي على أراضيها، وعُدّ القرار ثاني ضربة كبيرة خلال أسبوع واحد لسياسة واشنطن الأمنية في مكافحة الإرهاب في غرب ووسط إفريقيا. ويتمركز في تشاد نحو أقل من 100 جندي -ما يقرب من 75 جنديًا- نشرتهم الولايات المتحدة الأمريكية في إطار استراتيجيتها لمكافحة التطرف في غرب إفريقيا، إذ تعمل القوات الأمريكية في قاعدة "أدجي كوسي" الجوية بمهمة تدريب قوات تشادية خاصة لكبح الوجود الإرهابي في المنطقة، إلى جانب وحدة خاصة من الجيش التشادي لمحاربة جماعة بوكو حرام النيجيرية. وصرّح المتحدث باسم البنتاجون "باتريك رايدر" أن خطوة إعادة نشر بعض القوات الأمريكية من تشاد مؤقتة باعتبارها جزءًا من المراجعة المستمرة للتعاون الأمني بين البلدين، التي سيتم استئنافها بعد الانتخابات الرئاسية التشادية المقرر انعقادها في 6 مايو 2024.
بُناءً على ما تقدم، يسعي التحليل للإجابة عن سؤال: ما تداعيات قرار سحب القوات الأمريكية المتمركزة في قاعدة أدجي كوسي الجوية في نجامينا؟
مبررات متنوعة
يمكن إسناد خطوة سحب القوات الأمريكية من تشاد إلى عدة مبررات، تتمثل أبرزها في:
(*) الحديث عن خلاف بين مسؤولين أمريكيين وجنرال تشادي: أرسل رئيس أركان القوات الجوية التشادية "إدريس أمين أحمد" رسالة مؤرخة في 4 أبريل المنقضي، تم توجيهها إلى وزير القوات المسلحة الأمريكية، طالب خلالها الجيش الأمريكي إرسال نصوص الاتفاقيات الثنائية التي تبرر وجود القوات الأمريكية الخاصة في نجامينا، وردًا على ذلك، تم إرسال اتفاقيتين بين الدولتين من الطرف الأمريكي. لكن عقب الاطلاع على الاتفاقيتين، أعلنت تشاد عن فشل واشنطن في تقديم وثائق تبرر الوجود العسكري الأمريكي في نجامينا، وطلبت القوات الجوية التشادية من ملحق الدفاع الأمريكي الوقف الفوري للأنشطة الأمريكية في قاعدة "أدجي كوسي" الجوية في نجامينا، حتى بات الخلاف الأمريكي التشادي يدور حول عجز واشنطن عن إثبات واقعية الدور الأمريكي في تشاد.
والمُلاحَظ أن خطوة سحب القوات الخاصة في تشاد لم تكن مماثلة لخطوة النيجر المعلنة، إذ لم تقم حكومة نجامينا بإلغاء اتفاقية التعاون العسكري مع واشنطن كما فعلت نيامي، بل إن الخطوة أتت أعقاب خلاف بين مسؤولين أمريكيين وجنرال القوات الجوية التشادية، وأثار الخلاف الجدل والشكوك حول ما إذا كان الهدف من إرسال الوثائق إلغاء التعاون العسكري مع واشنطن أو الرغبة في تحسين شروط الاتفاقية الأمنية بين واشنطن ونجامينا.
(*) رفض الشراكات العسكرية الغربية في دول الساحل الوسطى: إن النقاش حول الوجود العسكري الأمريكي من عدمه في تشاد، يتزامن مع رغبة الدول الساحلية المجاورة مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو في التخلص من الوجود الغربي على أراضيهم، خاصًة أن قرار سحب القوات الأمريكية يأتي بعد اضطرار الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها العسكرية من النيجر عقب مظاهرات أنصار المجلس الانتقالي المطالبة برحيل القوات الأمريكية في 20 أبريل الجاري. إلى جانب ذلك، أعلنت بوركينا فاسو عن طردها لثلاثة دبلوماسيين فرنسيين وتصنيفهم بأنهم أشخاص غير مرغوب فيهم في 18 من أبريل المنقضي. ويأتي الرفض الواضح للوجود الأمريكي في توقيت غير أمن لتشاد؛ بسبب التهديدات المتصاعدة من المنظمات الإسلامية المتطرفة، وخضوعها للمجالس الانتقالية، ورغبتها المستميتة في ازدهار التعاون العسكري مع موسكو.
(*) التخوف من الإطاحة بالمرشح محمد إدريس ديبي: عقب الإعلان عن قرار سحب واشنطن قواتها العسكرية من تشاد، انتشرت رواية حول سبب القرار، وفسره البعض بأنه رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في إفشال مخطط ديبي لخوض انتخابات رئاسية ديمقراطية في 6 من مايو 2024، وشكك البعض في احتمالية تمويل واشنطن بعض الجماعات المتمردة في تشاد؛ للمساعدة في الإطاحة بالرئيس المنتخب الذي يرفض الوجود الأمريكي على أراضي تشاد، فالشائع في فكر رؤساء المجالس الانتقالية في إفريقيا عقب أي اضطراب سياسي، رغبتهم المستدامة في تثبيت سلطتهم لتحقيق مصلحتهم على حساب مصلحة الشعب.
تداعيات القرار:
يحمل قرار سحب القوات العسكرية الأمريكية من قاعدة أدجي كوسي الجوية في نجامينا، تداعيات مختلفة، يمكن إجمالها في:
(*) تعزيز العلاقات التشادية الروسية: عقب الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا من إفريقيا، تستغل روسيا تدهور علاقات الغرب مع إفريقيا؛ من أجل تعزيز الوجود الروسي في القارة السمراء، ومن المؤكد أن الانحدار للنفوذ الغربي في إفريقيا هو ما يريده الروس، وتسعي موسكو خلف الكواليس لإثارة مشاعر العداء بين إفريقيا والغرب. كما أن زيارة الرئيس الحالي "محمد إدريس ديبي" لموسكو في 23 يناير 2024، أكدت إقبال تشاد على فتح آفاق أوسع لتقوية أواصر العلاقات بين موسكو ونجامينا، إذ أكد الجانبان أن العلاقات الروسية التشادية ستشهد ازدهارًا خلال الفترة الحالية، ومن المحتمل توقيع اتفاقيات موثقة في مجال الدفاع والأمن بين واشنطن ونجامينا، ناهيك عن استغلال القوات الروسية الفراغ الأمريكي في قاعدة "أدجي كوسي" الجوية في تشاد، ومن ثمّ تحلُّ القوات الروسية محل القوات الأمريكية بالقاعدة المذكورة.
(*) تخطيط الولايات المتحدة الأمريكية لتوقيع اتفاقيات تعاون أمني جديدة: إن الخسارة الكبيرة لواشنطن في إفريقيا، لا تعني أنها ستتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية في دول إفريقية أخرى، بل ستسعى جاهدة لتوقيع اتفاقيات تعاون أمني جديدة مع دول إفريقية مثل غانا وكوت ديفوار وبنين، ومن ثم تعوض واشنطن خسارتها في كلٍ من نيامي ونجامينا. فواشنطن خسرت موقعًا استراتيجيًا آخر في تشاد بعد النيجر، بما يعنى ضرب الأجندة الأمريكية في مساحة واسعة من إفريقيا، وتشويه صورة واشنطن لدى الرأي العام الأمريكي حول قدرتها على استكمال مهمتها العسكرية الأمنية في المنطقة برمتها. لذلك، مخططات واشنطن لتوثيق علاقات أخرى مع دول القارة؛ يأتي مخافة أن تلحق واشنطن بباريس التي يندثر وجودها في منطقة الساحل الإفريقي.
(*) ارتفاع نسب الهجمات التي تشنها التنظيمات الإرهابية: مع تراجع الدور الذي تشهده الولايات المتحدة الأمريكية في إفريقيا، وتقهقر القوات العسكرية الأمريكية المتموقعة في نجامينا، من المرجح أن ينعكس ذلك بالسلب على الأمن في المنطقة، إذ ستسعى التنظيمات الإرهابية إلى تكثيف عملياتها الإرهابية في الآونة الأخيرة، الأمر الذي سيكون له ارتدادات سلبية على الداخل التشادي الذي سيشهد انتخابات ديمقراطية تنهى فترة حكم المجلس الانتقالي، ولا سيما استغلال التنظيمات الإرهابية الفراغ الأمني الغربي، بما يعد انتكاسة لجهود إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمحاربة التنظيمات الإرهابية، ومن ثم ارتفاع مؤشر الإرهاب بالقارة.
(*) انخراط الصين الدبلوماسي مع المنطقة: من المحتمل أن يعيد الانسحاب التدريجي لقوات الغرب المسؤولة عن الأمن في تشاد، ترتيب أوراق الدول الأخرى والعلاقات الخارجية التشادية، فعلى الرغم من الموقف الواضح والصريح للعلاقات التشادية الأمريكية والفرنسية، إلا أن الصين تحافظ على هدوئها حتى الآن، فالمؤكد أن الانسحاب الأمريكي من تشاد يضر بالمصالح الصينية على المستوى الأمني، لكن على الصعيد السياسي يأتي الانسحاب في صالح الصين؛ نظرًا لإتاحة الفرصة لاستغلال الثروات الاقتصادية في نجامينا لصالح بكين، ومن ثم المضي قدمًا لتكثيف التعاون الدبلوماسي مع تشاد.
إجمالًا، يمكن القول إن إفريقيا مهيأة لخوض مستقبل معقد عقب التراجع الغربي المتصاعد في المنطقة برمتها، إذ تعتبر فكرة تحقيق التوازن بين الشراكات التقليدية التي اعتادت عليها دول إفريقيا تواجه العديد من العراقيل التي يسببها النفوذ الروسي المتصاعد، ناهيك عن الدور الذي تلعبه المنظمات الإرهابية والميليشيات المحلية والمجالس الانتقالية بالدول التي شهدت اضطرابًا عسكريًا. وبالنسبة لتشاد، يبدو أن للوضع التشادي ديناميكيات مختلفة، إذ أشار معهد أبحاث السياسة الخارجية إلى أن التراجع الغربي المهول بالمنطقة يمثل حقبة جديدة تتولى فيها النخب الإفريقية مسؤولية الشؤون الإفريقية، وما زالت التوترات تجوب القارة السمراء، فضلًا عن القرارات والحسابات الأمريكية الراضخة لقرارات الدول الإفريقية خلال الفترة السابقة.