من انقطاع كابلات الاتصالات في بحر البلطيق إلى حريق عمدي لشركة أوكرانية في شرق لندن، ومن إثارة مشغلي السكك الحديدية في التشيك إلى تعطل عدد من الأقمار الصناعية التلفزيونية في جميع أنحاء أوروبا، وقتل منشق بالرصاص في إسبانيا، ومحاولة اغتيال الرئيس التنفيذي لشركة تصنيع أسلحة ألمانية.. لا تبدو هذه الحوادث معزولة إذا ما تم وضعها في إطار كبير، هو تصعيد الصراع الروسي الغربي.
بالنظر لهذه الحوادث الغريبة والهجمات الفردية والفشل المؤسف في البنية التحتية، لفت تحليل لصحيفة "ذا تليجراف" البريطانية إلى أنه "على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية، ومع استمرار الغرب في دعم جهود الحرب في أوكرانيا، صعَّدت روسيا بشكل كبير من أعمال التخريب في مختلف أنحاء أوروبا وخارجها، الأمر الذي أدى إلى نشوء شعور بعدم الاستقرار في القارة أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة".
ونقلت الصحيفة عن فيلجار لوبي، سفير إستونيا لدى المملكة المتحدة، مقولة قديمة في السياسة الروسية، مفادها أنهم يحبون خلق "فوضى محكومة".
ناقوس الخطر
الشهر الماضي، دقَّت أجهزة الأمن الغربية ناقوس الخطر، ففي خطاب ألقاه، قال كين ماكالوم مدير جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني (MI5): "ينبغي لنا أن نتوقع استمرار الأعمال العدوانية هنا في الداخل.. إن جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي -على وجه الخصوص- في مهمة مستمرة لإحداث الفوضى في الشوارع البريطانية والأوروبية".
وأضاف: "شهدنا أعمال حرق وتخريب وأكثر من ذلك.. إنها أعمال خطيرة تتم بتهور متزايد".
هذا الأسبوع، قال برونو كاهل، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني، إن "الإجراءات الهجينة" الروسية لا تؤدي إلا إلى زيادة "خطر أن يفكر حلف شمال الأطلسي في النهاية في استدعاء بند الدفاع المتبادل".
وفي خطاب مشترك مع نظيره الفرنسي، أمس الجمعة، تحدث ريتشارد مور، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6) عن "محور العدوان المفلس أخلاقيًا الذي يشرف عليه فلاديمير بوتين".
وقال: "كشفنا مؤخرًا عن حملة متهورة بشكل مذهل من التخريب الروسي في أوروبا، حتى في الوقت الذي يلجأ فيه بوتين وأتباعه إلى التهديد بالسلاح النووي، لبثِّ الخوف بشأن عواقب مساعدة أوكرانيا، وتحدي عزيمة الغرب في القيام بذلك".
والآن، ومع اقتراب عام 2024 من نهايته، لا يمر يوم -إلا نادرًا- دون ظهور عنوان جديد يضاف إلى كومة الهجمات أو التدخلات الروسية المحتملة المزعومة، ما يثير فزع الغرب واستخباراته، حتى حقيقة أن الناس يقولون الآن مازحين: "آه، إنهم الروس"، كلما حدث انقطاع للتيار الكهربائي في أوروبا الغربية، لها دلالة واضحة.
الماضي والحاضر
خلال الحرب الباردة، كان لدى جهاز المخابرات السوفييتي (KGB) قسم كامل يركز على عمليات التخريب التي كانت ستحدث عندما تندلع الحرب العالمية الثالثة بين الاتحاد السوفييتي والغرب، من بينها تفجير خطوط السكك الحديدية، ونشر عبوات الغاز السام في مترو لندن.
وكما هو الحال في الجغرافيا السياسية الحديثة، يشعر الخبراء الغربيون بالذعر إزاء ما سيحدث بعد ذلك، في حين يشير المؤرخون بهدوء إلى الماضي.
وأشار الأكاديمي والمؤرخ كالدر والتون، مؤلف كتاب " الجواسيس: حرب الاستخبارات الملحمية بين الشرق والغرب"، إلى سجل حافل طويل من التكتيكات والخطط التي يعرفها بوتين جيدًا، بصفته ضابط استخبارات سابق في المخابرات السوفييتية. وأكد: "لا بد أنه تدرب على فنون التخريب".
إضافة إلى الفنون السوفييتية، لفت الخبراء إلى استراتيجية روسية جديدة متمثلة في تجنيد عملاء محليين، وجماعات للجريمة المنظمة، وأشخاص غير راضين في البلدان المستهدفة.
وأشار تقرير حديث صادر عن أكاديميين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة إلى أنَّ الكرملين يستطيع أن يعهد بمهام التخريب إلى أي شخص في حاجة إلى المال وعلى استعداد للمخاطرة بلفت انتباه أجهزة الأمن.
وكما أشارت "ذا تليجراف"، فإن تكاليف الحرق العمد والاغتيال "كانت تُدفع بمعدل عدة مئات من الدولارات، وهو رقم منخفض للغاية بالنظر إلى طبيعة العمل"،
وقال التقرير: "يبدو أنه كما هو الحال في مجالات أخرى من اقتصاد العمل المؤقت، فإن الفوائد تعود عمومًا على صاحب العمل.. وفي حالة أجهزة الاستخبارات الروسية، فإن التكاليف منخفضة للغاية بحيث لا يمكن مقارنتها بتكاليف ضابط استخبارات بدوام كامل أو تشغيل عميل".
مرحلة حادة
الواقع أن النطاق غير العادي للتكتيكات التي يُزعم أن روسيا تستخدمها ضد الغرب، من الهجمات الإلكترونية إلى التدخل في الانتخابات والتخريب وحتى دفع المال للمؤثرين اليمينيين في الولايات المتحدة لنشر الدعاية المناهضة لأوكرانيا، واسع للغاية إلى الحد الذي يجعل كيف يمكن للغرب أن يقاومه.
لكن الخطأ الغربي الأكبر هو الفشل في اتخاذ التدابير بالسرعة الكافية، أو على الإطلاق "لأن الغرب مذهولون للغاية من جرأة روسيا"، حسب أحد الخبراء الذين تحدثوا للصحيفة.
وبطبيعة الحال، فإن اتجاه رد فعل الغرب يتحدد إلى حد كبير وفقًا لأهواء الرئيس الأمريكي المقبل.
وأعلن دونالد ترامب -الخميس الماضي- عن تعيين كيث كيلوج، وهو فريق متقاعد في الجيش الأمريكي يبلغ من العمر 80 عامًا، مبعوثًا خاصًا له إلى أوكرانيا وروسيا.
وكان الاقتراح الذي خرج به كيلوج هو تنازل أوكرانيا عن الأراضي التي سيطرت عليها موسكو، وهو الاقتراح الذي أبدى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ميلًا إليه، مقابل موافقة الناتو على انضمام كييف.