في 23 نوفمبر 2024، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصالاً هاتفيًا مع نظيره السنغالي باسيرو ديوماي فاي، حيث تم التباحث حول الأوضاع الأمنية المتدهورة في منطقة الساحل والصحراء، التي تشهد تزايدًا في تهديدات الجماعات الإرهابية، وفقًا لما أعلنته الرئاسة الروسية. وذكر الكرملين في بيان رسمي أن هذه المباحثات التي جاءت بدعوة من الرئيس السنغالي، أسفرت عن الاتفاق على تعزيز التعاون بين البلدين والارتقاء بالشراكة الثنائية، بما يساهم في تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل، إذ تأتي تحرُكات موسكو لتوسيع شراكاتها مع السنغال في سياق عدة دوافع استراتيجية، سواء كانت اقتصادية أو أمنية أو سياسية، تتماشى مع الطموحات الروسية في تعزيز نفوذها على مستوى القارة.
تأسيسًا على ما سبق، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما دوافع روسيا لتوسيع شراكاتها مع السنغال؟
دوافع متعددة
تتعدد دوافع روسيا لتوسيع شراكتها مع السنغال، إذ تشمل اعتبارات جيوسياسية، اقتصادية، وأمنية، فضلاً عن الدوافع الدبلوماسية الثقافية والإنسانية، يمكن حصرها في:
(*) مكافحة الإرهاب: أكد الرئيس الروسي ونظيره السنغال على أن خطر الجماعات الإرهابية مُتصاعِد، وتتمثل إحدى التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها السنغال في أن الإرهاب لا يعرف حدودًا، خصوصًا في منطقة غرب إفريقيا، وتعبر السنغال بقلق عن مخاوفها من توسع الأنشطة الإرهابية القادمة من دولة مالي المجاورة، وقد أكدت في عدة مناسبات قلقها بشأن وجود مقاتلي "فاجنر" بالقرب من حدودها مع مالي. فمن أجل مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة في المنطقة، تحتاج السنغال إلى تعزيز قدراتها الدفاعية، ومن خلال التعاون العسكري مع روسيا، يمكن للسنغال الحصول على أسلحة متقدمة وتقنيات حديثة لتحسين قدرتها على التصدي للتهديدات المتنامية. لذا، أحد الأهداف الرئيسية لهذا التعاون هو تحديث القوات المسلحة السنغالية وتأهيلها لتكون قادرة على التعامل مع أنواع متعددة من الهجمات، بما في ذلك التهديدات الإرهابية والهجمات عبر الحدود.
هذا التعاون لا يقتصر على تزويد السنغال بالأسلحة فحسب، بل يشمل أيضًا التدريب على استخدام وصيانة هذه المعدات. بالإضافة إلى ذلك، توفر روسيا تدريبًا في مجالات الأمن السيبراني والاستخبارات، وهو ما يساعد السنغال على مواجهة التهديدات الحديثة التي تعتمد على التقنيات الرقمية وتكنولوجيا المعلومات. فلا نغفل زيارة وزيرة التكامل الإفريقي والشؤون الخارجية لجمهورية السنغال "ياسين فال “إلى موسكو في 29 من أغسطس المنقضي، والتي أكدت أن مستقبل العلاقات بين موسكو وداكار ستشهد تعاونًا في مكافحة القرصنة؛ من أجل تقليص العمليات الإرهابية في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
(*) استكمال مبادرة كاماز في السنغال: يمثل مصنع كاماز في السنغال فرصة كبيرة لتعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري بين روسيا والدول الإفريقية، ولكنه في الوقت نفسه يطرح تحديات أمنية وجيوسياسية قد تؤثر على استقراره، حيث تعزز روسيا تعاونها مع السنغال من خلال افتتاح مصنع لشركة كاماز الروسية المتخصصة في تصنيع المركبات العسكرية الثقيلة، في خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز القدرات الإنتاجية المحلية في السنغال في مجالات الدفاع والصناعات الثقيلة، وسيُركِز المصنع على إنتاج مركبات مثل "تايفون"، المصممة خصيصًا لمقاومة الألغام والكمائن، إلى جانب الشاحنات العسكرية الثقيلة المستخدمة في العمليات اللوجستية والقتالية، ويُعد هذا المشروع جزءًا من جهود روسيا لتوسيع نفوذها العسكري في أفريقيا، وقد شهدت السنغال بالفعل تسليم مئات المركبات من كاماز في السنوات الأخيرة.
ومن المتوقع أن يسهم مصنع كاماز بشكل كبير في الاقتصاد السنغالي عبر توفير فرص عمل مباشرة في التصنيع والصيانة، بالإضافة إلى خلق فرص غير مباشرة في مجالات الخدمات اللوجستية، مما يعزز النمو الصناعي في المنطقة. كما أن إنشاء المصنع سيساعد في تطوير البنية التحتية المحلية وتشكيل شبكة توريد جديدة، مما قد يساهم في تحسين مناخ الأعمال في السنغال. وفي الوقت نفسه، يُتوقع أن يعزز المصنع من مكانة السنغال كمركز إقليمي لإنتاج المركبات العسكرية والمتخصصة في غرب إفريقيا، مما يفتح آفاقًا جديدة لتوسيع صادرات البلاد إلى أسواق إفريقية أخرى بحاجة إلى حلول النقل العسكري.
(*) استغلال عداء حزب باستيف المعارض لفرنسا: بعد أن حقق حزب باستيف المعارض فوزًا حاسمًا في الانتخابات التشريعية المبكرة في السنغال العام الجاري، تسعى روسيا بأن تقيم علاقات ودية مع الحزب المعارض أيضًا للسياسة الفرنسية، حيث يشتهر بمواقفه العدائية تجاه فرنسا، ويعتبر أن العلاقات بين السنغال وفرنسا بحاجة إلى إعادة تقييم، ويتهم الحزب فرنسا بالتدخل في الشؤون الداخلية للسنغال ودول غرب إفريقيا بشكل عام، وهو ما يعتبره الحزب من بقايا الاستعمار. وفيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، نجد أن صعود حزب راديكالي معارض لفرنسا سيؤدي إلى تعزيز العلاقات بين السنغال وروسيا التي تبحث عن نفوذ أكبر في إفريقيا، وستكون روسيا حليفًا محتملاً لحكومة السنغال الجديدة فيما يتعلق بالاستثمارات العسكرية والتقنية.
فرص وتحديات
تحمل الشراكة بين روسيا والسنغال فرصًا واعدة وتحديات متعددة، تُصنَف كالتالي:
(*) الفرص: تظل فرص روسيا في السنغال واعدة، بالنظر إلى رغبة العديد من الدول الإفريقية في تنويع شراكاتها الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية، وسيظل من الممكن لروسيا تعزيز حضورها في المنطقة من خلال تقديم الدعم العسكري، الاستثمارات الاقتصادية، والتعاون الثقافي. ويمكن لروسيا دعم السنغال في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، مما يساهم في تعزيز مكانة السنغال على الساحة الدولية، كما يمكن للبلدين توسيع نطاق تحالفاتهما في منتديات مثل منظمة الأمن والتعاون في البحر الأسود ومنظمة شنغهاي للتعاون، ناهيك عن الاهتمام الروسي بالقوة الناعمة؛ حتى يتسنى لروسيا رسم صورة ذهنية تجعل الشعب السنغالي يمنح الثقة الكاملة للوجود الروسي، ومن ثم تطويق النفوذ الفرنسي في القارة.
بالإضافة إلى ذلك، في 28 نوفمبر 2024، أعلن الرئيس السنغالي من القصر الرئاسي عن عزمه تقديم مطالبة رسمية لفرنسا بإغلاق قواعدها العسكرية على أراضي بلاده، معتبرًا أن بقاء هذه القواعد يشكل انتهاكًا صارخًا للسيادة الوطنية ويعكس استمرار الهيمنة الاستعمارية، وكشف عن تسلّمه رسالة من الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" التي اعترف فيها بمسؤولية فرنسا الكاملة عن "مجزرة ثياروي" التي ارتكبتها القوات الاستعمارية في ديسمبر 1944. هذا الاعتراف التاريخي يعزز من موقف السنغال في مواجهة النفوذ الفرنسي، مما يفتح أمام روسيا فرصة ذهبية لإعادة استغلال تلك القواعد العسكرية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، وبالتالي تثبيت وجودها العسكري والاقتصادي في السنغال، بما يعزز نفوذها الاستراتيجي في غرب إفريقيا ويفتح لها أبواب التحالفات الإقليمية الجديدة.
(*) التحديات: على الرغم من هذه الدوافع الاستراتيجية، يواجه التعاون الروسي مع السنغال تحديات عديدة مثل المنافسة مع القوى الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا، فضلاً عن التحديات الاقتصادية والسياسية في السنغال نفسها. فنجد تحدي الوجود الفرنسي والأمريكي، فالسنغال، باعتباره عضوًا في الاتحاد الإفريقي ومجموعة الدول الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس)، يتمتع بعلاقات قوية مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وتواجه روسيا صعوبة في منافسة النفوذ الغربي في السنغال، كما لا تزال السنغال تعتمد بشكل كبير على المساعدات والاستثمارات الأجنبية، وخاصة من القوى الغربية، وقد يكون الاعتماد على روسيا غير كافٍ لتلبية احتياجات التنمية المستدامة للبلاد. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون هناك صعوبات سياسية في السنغال تتعلق بالتحولات الحزبية أو الاستقطاب السياسي الداخلي، مما قد يؤثر على الاستقرار السياسي.
ختامًا، يمكن القول إن دوافع روسيا لتوسيع شراكاتها الاستراتيجية مع السنغال تعكس رؤية موسكو في إعادة تشكيل دورها العالمي وتعزيز وجودها في إفريقيا التي تُعدّ ساحة حيوية للمنافسة الدولية، من خلال توسيع العلاقات مع السنغال، وتسعى روسيا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية، بدءًا من تعزيز النفوذ السياسي والعسكري في غرب إفريقيا، وصولًا إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة في مجالات الموارد الطبيعية، الطاقة، والبنية التحتية. كما أن الشراكة مع السنغال تمثل خطوة مهمة في منافسة النفوذ الغربي، وتوفير بدائل اقتصادية وأمنية لدول القارة التي تبحث عن تنوع في شراكاتها الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية.