تعيش أوروبا حقبة جديدة من التحديات الأمنية، حيث تزداد مخاوف الدول الغربية من التهديدات المستترة التي لا تعتمد فقط على القوة العسكرية التقليدية. ففي خضم الصراعات الجيوسياسية، تواجه القارة ظاهرة تُعرف بـ"الحرب الهجينة"، حيث تندمج الوسائل التخريبية والتقنيات الحديثة لتقويض استقرار الدول.
وفي هذا الإطار، شهد بحر البلطيق في الأيام الأخيرة أحداثًا غامضة، تُنذر بتصاعد التوترات الأمنية، مع استمرار النزاعات في الشرق الأوكراني وخطر التصعيد الإقليمي.
صياغة قواعد الصراع
وتُلقي الحرب الروسية الأوكرانية بظلال ثقيلة على المشهد الدولي. ما بين عقيدة نووية متجددة للكرملين وضربات جوية متواصلة تطال المدن الأوكرانية، تتكشف يوميًا حقائق جديدة ترسم ملامح النزاع الأكثر خطورة منذ الحرب العالمية الثانية.
هذه المعارك ليست فقط اختبارًا للقوة العسكرية، بل هي أيضًا صراع إرادات بين أطراف تسعى لفرض شروطها على حساب أمن واستقرار العالم. في هذا التقرير، نستعرض أبرز التطورات والانعكاسات المترتبة على هذا النزاع المستمر.
عقيدة نووية روسية جديدة
تضمنت العقيدة النووية الروسية المحدّثة، التي تم الإعلان عنها رسميًا في الأسابيع الأخيرة، توسعًا في سيناريوهات استخدام الأسلحة النووية. وفقًا لهذه التعديلات، يمكن لروسيا الرد نوويًا على أي هجوم تقليدي إذا كان بمساعدة دولة نووية.
كما أضافت العقيدة إمكانية استخدام النووي في حالات "هجوم جوي واسع النطاق" باستخدام الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المقاتلة، خاصة إذا كانت تلك الهجمات صادرة عن دولة عضو في تحالفات مثل الناتو. ويمتد نطاق العقيدة ليشمل حليفة روسيا، بيلاروسيا، معتبرة أي اعتداء عليها عدوانًا يستدعي الرد بالمثل.
"الحرب الهجينة" تهدد أمن أوروبا
في يومين متتاليين، وقعت حادثتان مثيرتان للقلق في بحر البلطيق، حيث انقطعت كابلات اتصال تحت الماء، الأولى تربط بين ألمانيا وفنلندا، والثانية تربط بين ليتوانيا والسويد. على الرغم من عدم وضوح السبب المباشر، أشار وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس إلى أن الحوادث تبدو مدبرة، مؤكدًا أن "لا أحد يعتقد أن الكابلات قد قُطعت عن طريق الخطأ".
هذا الحادث أعاد إلى الأذهان الانفجارات التي استهدفت خطوط أنابيب الغاز "نورد ستريم" في 2022، حيث وُجهت أصابع الاتهام إلى روسيا، قبل أن تكشف تقارير عن تورط عناصر موالية لأوكرانيا.
أصدر وزراء خارجية دول أوروبية رئيسية بيانًا مشتركًا، محذرين من تصعيد "التصرفات الهجينة" لموسكو، واصفين إياها بأنها غير مسبوقة من حيث النطاق والتنوع. يُعتقد أن هذه الأعمال تهدف إلى زعزعة استقرار القارة وتوجيه رسائل قوية لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
معارك في الخنادق المتجمدة
وتشهد منطقة دونباس، في شرق أوكرانيا، تسارعًا في التقدم الروسي، مع سيطرة تدريجية على قرى استراتيجية. تشير تقارير إلى استهداف مدينة بوكروفسك، التي تُعد مركزًا حيويًا لخطوط الإمداد الأوكرانية، ما قد يشكل ضربة كبيرة للقدرات الأوكرانية.
وفقًا لتحليل بيسي بيرونيان، من معهد بلاك بيرد الفنلندي، الذي يحلّل صور الأقمار الصناعية من الخطوط الأمامية التي تمتد لأكثر من 1000 كيلومتر، لـ"رويترز" استولت القوات الروسية خلال الأشهر الأخيرة على مساحات واسعة، بينما تُظهر الصور الفضائية انخفاض المساحات التي تسيطر عليها أوكرانيا، لا سيما في منطقة كورسك.
وتسببت الحرب في خسائر بشرية هائلة، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى مقتل أكثر من 11,700 أوكراني، مع تأكيد كييف أن العدد الفعلي أعلى بكثير. كما يعيش أكثر من 6 ملايين أوكراني كلاجئين، بينما تقلص الاقتصاد الأوكراني إلى 78% فقط من حجمه السابق.
دور الأسلحة الغربية والتصعيد العسكري
دخلت صواريخ ATACMS الأمريكية، ذات المدى البعيد، معادلة الحرب أخيرًا، على الرغم من تكلفتها العالية، التي تبلغ 1.5 مليون دولار لكل صاروخ، تساهم هذه الأسلحة في إجبار روسيا على إعادة تموضع أصولها العسكرية بعيدًا عن الجبهات.
وأكدت كييف استخدامها لهذه الصواريخ لأول مرة في هجوم على مستودع أسلحة في منطقة بريانسك الروسية، وهو ما أقرته موسكو مع الإشارة إلى اعتراض معظم الصواريخ.
التحالف الروسي-الكوري الشمالي
أثارت تقارير عن إرسال كوريا الشمالية آلاف الجنود لدعم روسيا مخاوف جديدة، إذ حذّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من إمكانية تعزيز هذا التحالف وإرسال ما يصل إلى 100 ألف جندي كوري شمالي لدعم الجهود الروسية.
في ظل هذه التوترات المتزايدة، يبدو أن أوروبا تواجه حربًا متعددة الأبعاد تهدد أمنها واستقرارها، مع استمرار النزاعات في الشرق الأوكراني وتصاعد التهديدات التخريبية في بحر البلطيق. ومع دخول أسلحة متطورة مثل ATACMS على الساحة، تزداد تعقيدات الصراع، ما يجعل المستقبل أكثر ضبابية. وسط ذلك، يبقى السؤال الأكبر: كيف ستتمكن أوروبا من حماية أمنها وسط هذه العواصف الهجينة؟