لا تزال الانتخابات الرئاسية الأمريكية شديدة التنافس بين نائبة الرئيس مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، والرئيس السابق مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، فاستطلاعات الرأي تشير إلى تقارب النتائج، لذلك يتجه المرشحان لحسم سباقهما الانتخابي عبر المزيد من حشد الناخبين الأمريكيين كلٌ لصالحه في الولايات المتأرجحة مثل ميشيجان وويسكونسن.
وتُظهر استطلاعات الرأي تقاربًا كبيرًا بين دونالد ترامب وكامالا هاريس، ما يعكس انقسامًا واضحًا بين الناخبين، في ظل تقدم طفيف لهاريس بفارق يتراوح بين 0.5% و2%. وعلى سبيل المثال، تُظهر الاستطلاعات الأخيرة التي رصدتها كل من Real Clear Politics وFive Thirty Eight أن نسبة "هاريس" تبلغ نحو 49.2%، بينما يأتي "ترامب" ثانيًا بنحو 48.3%، أما في الولايات المتأرجحة الرئيسية، مثل ويسكونسن وبنسلفانيا وأريزونا، فإن النتائج متقاربة جدًا وتُظهر تقدمًا لكلا المرشحين حسب الاستطلاعات المختلفة.
وتشير هذه الأرقام إلى انقسام كبير بين الناخبين، ما يعكس سباقًا شديد التنافسية، حيث يمكن أن تؤدي تغييرات طفيفة في نسب المشاركة الانتخابية إلى تأثير كبير على النتيجة النهائية، كما تبيّن هذه الأرقام حالة الاستقطاب الشديد في الشارع الأمريكي، إذ ينقسم الناخبون على أسس حزبية واضحة بفعل وتأثير قضايا مثل الاقتصاد والسياسات الخارجية التي من شأنها التأثير على توجهاتهم الانتخابية.
في هذا السياق، يتناول التحليل التالي حدود استفادة كلا المرشحين من حالة الانقسام تلك التي تسود في اللحظة الراهنة الشارع الأمريكي.
انقسام ممتد وقضايا متشابكة
يتمحور انقسام الناخبين الأمريكيين في انتخابات 2024 حول عدة قضايا رئيسية تعكس التوجهات السياسية والاجتماعية المختلفة بين الديمقراطيين والجمهوريين، وتمتد هذه الانقسامات إلى قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتؤثر على اتجاهات التصويت، فيما يلي أهم تلك القضايا:
(*) القضايا الاقتصادية والتضخم: تأتي تكاليف المعيشة بسبب ارتفاع الأسعار والتضخم في مقدمة للقضايا الرئيسية التي أثرت على حياة الأمريكيين في السنوات الأخيرة، فغالبًا ما يركّز الجمهوريون على انتقاد سياسات الإنفاق التي يعتقدون أنها ساهمت في ارتفاع التضخم، بينما يؤكد الديمقراطيون على برامج الإعانات والدعم الاجتماعي لتخفيف الأعباء عن الأسر.
وفيما يتعلق بالسياسات الضريبية، فهناك اختلافات واضحة بين الحزبين بشأن الضرائب، حيث يدعو الجمهوريون عادة إلى خفض الضرائب كوسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي، في حين يميل الديمقراطيون إلى زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات لتمويل برامج الرعاية الاجتماعية.
(*) السياسات الاجتماعية والقيم: يمثّل الإجهاض وحقوق المرأة محور اهتمام هذه السياسات، فقد أصبح الإجهاض قضية حيوية في انتخابات 2024 بعد قرار المحكمة العليا بإلغاء الحكم الفيدرالي الذي كان يحمي حق الإجهاض (رو ضد وايد)، فالديمقراطيون يدعّمون حق الإجهاض ويريدون حمايته قانونيًا، في حين أن يؤيد العديد من الجمهوريين سياسات تقييد الإجهاض.
(*) الهجرة وأمن الحدود: يركز الجمهوريون على تشديد الرقابة على الحدود ومكافحة الهجرة غير الشرعية، ويعتبرون ذلك جزءًا أساسيًا من ضمان الأمن القومي الأمريكي، وفي المقابل، يدعم الديمقراطيون إصلاحات واسعة في نظام الهجرة، بما في ذلك توفير مسارات قانونية للإقامة والعمل للمهاجرين.
(*) السياسات الخارجية والدور العالمي للولايات المتحدة: أصبحت السياسة الخارجية تجاه الصين وروسيا قضية بارزة في السباق الانتخابي الحالي، حيث يدعم كلا الحزبين سياسات صارمة تجاه الصين، لكن تختلف مقارباتهما في التنفيذ، إذ ينتقد الجمهوريون سياسات الإدارة الديمقراطية الحالية، متهمين إياها بالضعف تجاه روسيا والصين.
ويتجلى هذا الانقسام أكثر حول المساعدات العسكرية لأوكرانيا، فهناك انقسام بشأن الدعم الأمريكي لأوكرانيا في حربها مع روسيا؛ حيث يفضل العديد من الجمهوريين تقليص الدعم العسكري والمالي، بينما يسعى الديمقراطيون إلى مواصلة دعم أوكرانيا كجزء من التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها.
(*) نظم وآليات الانتخابات والديمقراطية: يُثار حاليًا جدال وانقسام بين الأمريكيين حول التصويت المبكر والتصويت عبر البريد، فبعد انتخابات 2020 والجدل الكبير حول نزاهة الانتخابات، لا يزال هناك انقسام حول آليات التصويت.
ويسعى الجمهوريون لفرض قيود على التصويت بالبريد والتصويت المبكر، بينما يدعم الديمقراطيون توسيع الوصول إلى صناديق الاقتراع، ويتزايد هذا الانقسام في ظل نقص في الثقة بالنظام الانتخابي بين بعض مؤيدي الحزب الجمهوري، خصوصًا بعد مزاعم تزوير الانتخابات في 2020 التي تظل محورًا للسجال بين الحزبين، حيث يؤكد الديمقراطيون على سلامة العمليات الانتخابية ويدعون لتعزيز الثقة بها.
(*) تغير المناخ وتحول الطاقة: يشهد مجال السياسات البيئية انقسامًا واضحًا بين الناخبين الأمريكيين، فبينما يدعم الديمقراطيون بشدة السياسات الرامية للحد من تغير المناخ وتعزيز الطاقة المتجددة، يركّز الجمهوريون على أهمية صناعة النفط والغاز الأمريكي ويدعون إلى تخفيف القيود البيئية لتقليل تكلفة الطاقة.
(*) التعليم والثقافة: تمثل قضايا المناهج الدراسية والنقاشات حول نظرية العرق والسياسات المتعلقة بالجنس في المدارس انقسامًا بين الناخبين، فالجمهوريون يعارضون تدريس مواضيع يرون أنها تسبب تفرقة أو تتعارض مع القيم التقليدية، بينما يدعم الديمقراطيون حرية التعليم.
إجمالًا، تشكل هذه القضايا نقاط الانقسام الرئيسية بين الناخبين الأمريكيين في انتخابات 2024، وتعكس في الوقت نفسه الفجوة بين التوجهات الأيديولوجية بين الحزبين وتأثيرها على الساحة السياسية الأمريكية. فالديمقراطيون والجمهوريون يتبنون رؤى متعارضة تمامًا بشأن مستقبل الولايات المتحدة، ما يعزّز الاستقطاب السياسي. ويمثل دونالد ترامب قاعدة محافظة متشددة تسعى للعودة إلى سياسات سابقة، مثل تعزيز الحمائية التجارية والسياسات الصارمة على الهجرة. في المقابل، في حين تسعى كامالا هاريس إلى تقديم نفسها كاستمرار جزئي لإدارة بايدن، لكنها تحاول التمايز عبر التركيز على العدالة الاجتماعية وبعض القضايا الداخلية.
حدود استفادة ترامب وهاريس من حالة الانقسام
قد تشهد الفترة الأخيرة من السباق الانتخابي زيادة سعى كلا المرشحين لاتباع استراتيجيات تهدف إلى بناء جسور بين الفئات المختلفة من الناخبين عبر التركيز على القضايا المشتركة وتعزيز الحوار بدلًا من الاستقطاب الراهن. وفي ضوء ذلك يمكن توضيح بعض الاستراتيجيات الانتخابية التي قد يلجأ إليها المرشحان خلال الفترة المتبقية من السباق الانتخابي للاستفادة من الانقسام في المجتمع الأمريكي وبما يعزّز فرص فوز أحدهما في ذلك السباق، وذلك على النحو التالي:
(&) استراتيجيات محتملة لدونالد ترامب: قد يحاول ترامب في الفترة المقبلة، تقليل حدة خطابه السياسي، خاصة تجاه المجموعات التي لا تدعمه، ففي السابق اتسمت خطاباته بمهاجمة وسائل الإعلام والتقليل من شرعية خصومه السياسيين، ما ساهم في توجهه نحو خطاب أكثر توحيدًا، قد يساعد في استقطاب فئات جديدة من الناخبين.
كذلك قد يركّز ترامب على النمو الاقتصادي للجميع من خلال تسليط الضوء على السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى دعم العمال والمزارعين والصناعات الأمريكية، ويمكن لترامب تقديم نفسه كمدافع عن تحسين الظروف الاقتصادية لجميع المواطنين، الأمر الذي يمكن أن يعزّز شعبيته بين الطبقات العاملة والوسطى.
هذا بالإضافة إلى أنه يمكن لترامب الانفتاح على المجموعات العرقية والدينية المختلفة، فنظرًا لأهمية التصويت العربي الأمريكي في بعض الولايات مثل ميشيجان، يمكن لترامب تعزيز التواصل مع هذه المجتمعات وإظهار اهتمام أكبر بقضاياهم، ما قد يساعد في كسب دعم إضافي.
(&) استراتيجيات محتملة لكامالا هاريس: قد تتجه هاريس للتركيز على تقديم برامج شاملة في مجالات مثل الصحة والتعليم والتنمية الاقتصادية، مع تأكيد أن هذه البرامج تهدف إلى خدمة الجميع بغض النظر عن الانتماء السياسي أو الديني.
وقد تعترف هاريس بالمخاوف المشروعة للناخبين المحافظين تجاه برنامجها الانتخابي، وتسعى لفتح حوار مع الناخبين الذين يشعرون بأن الحكومة الفيدرالية تتجاهل قضاياهم. وقد تتجه لتقديم تنازلات في بعض القضايا، مثل الهجرة أو الدعم للأعمال الصغيرة، لإظهار استعدادها للاستماع لمخاوفهم والبحث عن حلول وسط.
كذلك قد تحرص "هاريس" على تبني سياسة خارجية متوازنة، ففي ظل الأزمة الحالية في الشرق الأوسط، قد يكون من المفيد لهاريس تبني نهج أكثر توازنًا يعترف بحقوق الفلسطينيين وبـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ما قد يعزز موقفها بين الناخبين من أصول عربية وإسلامية دون خسارة دعم القاعدة التقليدية للحزب الديمقراطي.
القدرة على معالجة الانقسام
إن قدرة كل من دونالد ترامب وكامالا هاريس على معالجة الانقسام الاجتماعي والسياسي الراهن تتوقف على تطوير مواقفهما السياسية ونهجهما في التواصل مع الناخبين، إضافة إلى مصداقيتهما أمام الجمهور.
ففي جانب ترامب، فإنه يتبنى خطابًا قويًا وجريئًا يعكس رغبة في إعادة تشكيل المشهد السياسي لصالح القيم المحافظة والأولويات الأمريكية التقليدية، حيث يجذب هذا النوع من الخطاب قاعدة واسعة من الناخبين المحافظين الذين يشعرون بأنهم تعرضوا للتجاهل من قبل النخب السياسية التقليدية، وخاصة من سكان المناطق الريفية والعاملة. ومع ذلك، فإن خطابه الاستفزازي ونبرته الهجومية ضد المعارضين قد يزيد من الاستقطاب بدلًا من الحد منه، ورغم شعبيته الكبيرة بين الناخبين الجمهوريين، إلا أن قدرة الرئيس السابق على بناء جسور تواصل مع الديمقراطيين أو المستقلين لا تزال محدودة.
وتعتمد مصداقية دونالد ترامب في قدرته على توظيف شعبيته الواسعة بين الناخبين المحافظين الذين يرون فيه منقذًا للأمة من التغيرات التي يعتقدون أنها تهدد القيم الأمريكية التقليدية، ومع ذلك، فإن الانقسام الشديد الذي خلقه خلال ولايته السابقة، بما في ذلك ردود الفعل حول هجوم الكونجرس في يناير 2021، قد يحد من قدرته على كسب ثقة بعض الناخبين المستقلين والديمقراطيين.
على الجانب الآخر، تسعى كامالا هاريس إلى تقديم صورة أكثر شمولية، مع التركيز على قضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، بما في ذلك قضايا المساواة العرقية والسياسات المتعلقة بالهجرة. ويمكن أن يكون لهذا التوجه تأثير إيجابي في جذب الناخبين الذين يطمحون إلى قيادة تتبنى القيم الشاملة وتحترم التنوع.
ومع ذلك، فإن قربها من سياسات إدارة بايدن، بما في ذلك سياسات الشرق الأوسط، قد يجعلها تواجه صعوبة في الحصول على ثقة الناخبين الذين يرون أن الإدارة الحالية لم تتمكن من معالجة العديد من القضايا الداخلية والخارجية بطريقة فعالة.
كذلك قد تواجه كامالا هاريس، رغم تمثيلها لجزء من القاعدة الديمقراطية والتقدمية، صعوبة في إقناع الناخبين بأنها ستتخذ خطوات مختلفة تمامًا عن إدارة بايدن، التي يعتقد الكثيرون أنها لم تنجح في رأب الصدع الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك، فإن محاولاتها لتبني نهج أكثر توازنًا، خاصة في السياسة الخارجية، قد تكسبها بعض المصداقية لدى الناخبين الذين يبحثون عن الاستقرار والتواصل البناء مع المجتمع الدولي، مع الأخذ في الاعتبار أن قضايا السياسة الخارجية رغم أهميتها خاصة في الانتخابات الراهنة - بسبب الحرب على غزة ولبنان والأزمة الروسية الأوكرانية - ليست العامل الحسم في تحديد اتجاهات تصويت الناخبين الأمريكيين.
في النهاية، يمكن القول إنه لا يزال السباق بين كامالا هاريس ودونالد ترامب متقاربًا وغير محسوم حتى الآن، فمعظم استطلاعات الرأي تُظهر فارقًا ضئيلًا بين المرشحين، الأمر الذي يؤكد الانقسام الحاد بين الناخبين الأمريكيين في الانتخابات المقررة نوفمبر المقبل ما قد يجعل هذه الانتخابات مشحونة بالتوترات. ويعكس هذا الانقسام التوتر الراهن في المجتمع الأمريكي، حيث يشعر العديد من الناخبين بأن الطرف الآخر لا يمثل مصالحهم أو قيمهم، لذلك فإن حسم هذا السباق من جانب أي من المرشحين، قد يعتمد إلى حد كبير على مدى قدرة ترامب أو هاريس على استخدام استراتيجيات انتخابية تقلل من حالة الانقسام والاستقطاب السائدة في الشارع الأمريكي في الوقت الراهن بما يمهّد الطريق للوصول إلى البيت الأبيض عبر بوابة توحيد الأمريكيين.
وإجمالًا، يرى البعض أن كامالا هاريس تمتلك فرصًا أكبر في تقديم نهج شامل لمعالجة الانقسام وقد يفسر ذلك تقدمها الطفيف في استطلاعات الرأي الأخيرة، لكنها قد تواجه تحديات بسبب ارتباطها بإدارة بايدن. من ناحية أخرى، فإن دونالد ترامب ورغم شعبيته الكبيرة بين قاعدة معينة من الناخبين، قد يواجه صعوبة في إقناع أولئك الذين يفضلون خطابًا أقل استقطابًا وأكثر توحيدًا.