يأتي إعلان المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، بوقف كل عمليات التنسيق والعمليات المشتركة لمكافحة الإرهاب مع التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش، والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب ضبابية الموقف الأمريكي من التعزيزات التركية في شمال سوريا، والمطالبة برسالة أقوى من واشنطن إزاء تلك التعزيزات غير المسبوقة على الحدود. وقد مثّل الدعم الأمريكي للأكراد في شمال سوريا باعتبارهم رقمًا في معادلة الصراع على سوريا يضمن لواشنطن موقعًا في ترتيبات التسويات النهائية مع القوى المتنافسة على مستقبل سوريا، حيث تَشكّل ذلك الدعم عبر مرحلتين؛ الأولى، بدأت منذ عام 2014 عقب الانتفاضة السورية من خلال دعمها لوحدات حماية الشعب الكردي لمساندتها واشنطن في مكافحة تنظيم داعش في المواجهات الأولى في معارك عين العرب (كوباني)، وتل أبيض والشدادي ومنبج. أما المرحلة الثانية، فقد تزامنت مع تشكيل قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في أكتوبر 2015 من مكونات عسكرية متعددة المذاهب والأعراق بأغلبية كردية تصل إلى الثلثين. يُذكر أن الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية، تمثل في التسليح والتدريب والاستشارات.
مؤشرات التباعد:
على الرغم من الجهود الأمريكية الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية، إلا أن هناك العديد من المؤشرات التي تعكس نوعًا من التباعد الأمريكي الكردي، والتي يمكن إجمالها في التالي:
(*) تخفيض التعاون الكردي لمواجهة تنظيم "داعش": برغم إعلان المتحدث باسم قوات "قسد" وقف العمليات المشتركة مع التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة تنظيم "داعش" في شمال شرق سوريا، إلا أن ثمة تقارير إعلامية تشير إلى استئناف التحالف الدولي لدورياته المشتركة مع قوات "قسد"، وأن ثمة تخفيض لتلك الدوريات المشتركة في شمال شرقي سوريا، والتي تراجعت من 20 دورية أسبوعيًا إلى نحو 5 دوريات تقريبًا، وذلك بهدف التركيز على التصدي للتهديدات التركية وحماية مناطق الأكراد في الشمال السوري. وعلى الرغم من النجاحات التي تحققت في مواجهة تنظيم "داعش" في المناطق الحدودية بين العراق وسوريا، إلا أن ثمة تقديرات تشير إلى احتمالية عودة التنظيم من خلال خلاياه النائمة في تلك المناطق. وهو الأمر الذي تجلى في تشكيل تنظيم "الرايات البيضاء" من بقايا مقاتلي تنظيم "داعش"، والذي بدأ ينشط في المناطق الحدودية ما بين العراق وسوريا.
(*) مطالبات كردية بدعم روسي: أعلن المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وفقًا لموقع قناة "روسيا اليوم" في 28 نوفمبر 2022، أن "قسد" طلبت من ممثلين روس المساعدة في عقد اتفاق مع الحكومة السورية لحماية الأراضي التي يسيطرون عليها شمال شرق سوريا، وأنه لم يتلق منهم سوى مساعٍ لخفض التصعيد في إطار الحفاظ على الاستقرار ومنع وقوع أي عدوان، وتلبيةً لتلك المطالب تناولت بعض التقارير الإعلامية، قيام موسكو بإرسال تعزيزات عسكرية لمناطق تسيطر عليها القوات الكردية والجيش السوري في محافظة حلب بشمال سوريا على وقع التهديدات التركية بهجوم برى على مناطق الأكراد.
(*) الغارات التركية على شمال سوريا: شكّل الموقف الأمريكي، الذي يراه الأكراد غير حاسم، أحد أبرز مؤشرات التباعد بين الجانبين في الآونة الأخيرة، لا سيما أن القوات التركية منذ 20 نوفمبر 2022، وهي تقوم بشن العديد من الغارات على شمال سوريا ضد مناطق تمركزات حزب العمال الكردستاني، بعد إلقاء اللوم على مقاتلين من الأكراد السوريين بالضلوع في التفجيرات التي شهدتها أسطنبول وفق الرواية التركية. وفي حين تجدد واشنطن معارضتها الشديدة لشن تركيا عملية عسكرية تلوح بها في شمال سوريا، وتطالب أنقرة بوقف فوري لعملياتها العسكرية لأنها تهدد أمن الجنود الأمريكيين الموجودين في مواقع لقوات سوريا الديمقراطية، إلا أن الأكراد يطالبون بمزيد من الضغوط الأمريكية على أنقرة لوقف عملياتها الجوية، ومنعها من بدء اجتياح برى لقراهم ومناطق وجودهم في الشمال السوري.
(*) الوساطة الروسية للتقارب بين بشار وأردوغان: جاء إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان في 23 نوفمبر 2022 عقب مشاركته في اجتماع لنواب حزبه الحاكم العدالة والتنمية، عن إمكانية لقائه بالرئيس السوري بشار الأسد، قائلًا في رده على سؤال صحفي، بأنه لا توجد خصومة دائمة في السياسة، وسنتخذ خطواتنا في هذا الصدد. في حين رأى كتّاب أتراك من الموالين للحكومة، أن هذا اللقاء يمكن عقده برعاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل الانتخابات العامة البرلمانية والرئاسية المقررة في تركيا خلال يونيو المقبل. لذلك تعتقد العديد من التحليلات، بأن التقارب السوري التركي في حال تحققه سيكون على حساب قضية الأكراد ومستقبلهم، لا سيما أن تركيا لا ترغب في أن يحصل أكراد شمال سوريا على مكتسبات مماثلة لما حصل عليه أكراد العراق من إدارتهم لمناطق الحكم الذاتي التابعة لهم في إطار النموذج الفيدرالي العراقي.
سيناريوهات محتملة:
في إطار تحولات السياسة الأمريكية في المنطقة والتوجه شرقًا لمحاصرة النفوذ الصيني، في ظل اتجاه أمريكي يرى أن على دول منطقة الشرق الأوسط أن تتحمل تكلفة صراعاتها، وأن الانخراط الأمريكي في تلك الصراعات أسهم في إعطاء فرصة للتمدد الصيني في مناطق حيوية من العالم مثل منطقة الإندو باسيفيك، فإن ثمة سيناريوهين رئيسيين لحدود التغيير في السياسة الأمريكية تجاه الأكراد:
(&) السيناريو الأول، الحفاظ على الوضع القائم: ينطلق هذا السيناريو من فكرة استمرار دعم الأكراد في الشمال السوري ومساندتهم لقوات التحالف الدولي لمكافحة "داعش" في شمال شرق سوريا. ويري مؤيدو هذا الاتجاه، بأنه يوجد في شمال شرقي سوريا نحو 27 سجنًا، فيما يقدر عدد السجناء من عناصر تنظيم "داعش" بنحو 10 آلاف شخص، بالإضافة إلى مخيمين يقطن فيهما ما يقرب من 60 ألف شخص من عائلات مسلحي التنظيم. وهو الأمر الذي سيشكل، وفق هذا الاتجاه وفي حال خروج الوضع عن السيطرة، وتنفيذ الهجوم البري التركي على الشمال السوري، تحديًا للجهود الدولية التي بُذلت خلال السنوات الماضية في شمال شرقي سوريا لمواجهة "داعش".
(&) السيناريو الثاني، التخلي عن الأكراد وفق حسابات المصالح بين الأطراف الدولية المتنافسة: ويبرر هذا السيناريو السوابق التاريخية الأمريكية مع الأكراد، حيث يتكرر التخلي الأمريكي عن مساندتهم في إطار لعبة توازنات القوى والمصالح الاستراتيجية ما بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية. وفى ظل اتجاه تفاعلات الإقليم بشكل عام نحو التهدئة وإعادة الاعتبار لمركزية الدولة الوطنية في تلك التفاعلات، تصبح لمطالب الأقليات وقضاياهم أولوية متأخرة في تجاذبات السياسة الدولية ومنطلقاتها.
في النهاية، يمكن القول إن حدود تغيير السياسة الأمريكية تجاه الأكراد في سوريا ستتوقف على حسابات واشنطن ومصالحها المستقبلية في المنطقة، وما إذا كانت تلك العلاقات ستقوم على فكرة الاحتواء المزدوج التي تمارسها واشنطن من خلال توظيف تلك الأقلية ومطالبها في تسويات الترتيبات النهائية مع الدول المتنافسة على سوريا، لذلك من المرجح ألا يحدث تغيير جوهري في علاقة واشنطن مع قوات "قسد" السورية، وأن التحالف التكتيكي سيستمر في إطار القضاء على تنظيم "داعش" مع الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية بتركيا باعتبارها عضوًا في حلف شمال الأطلنطي.