مساء 21 مايو 2023، فوجئ المعنيون بتطورات الأحداث في الجمهورية الإيرانية على الصعيدين الإقليمي والدولي، بخبر وقع كالصاعقة على البعض، نظرًا لكونه حدث غير متوقع ويأتي في توقيت غاية في الحساسية بالنسبة لطهران، وذلك بإعلان وكالة "نور نيوز"، المقربة من الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي الإيراني، خبر استقالة أمين المجلس، الأدميرال “علي شمخاني"، المعروف بـ “رجل الصفقات" و"مهندس العلاقات الإيرانية العربية" بعد عقد من توليه هذا المنصب في عهد الرئيس الإيراني السابق "حسن روحاني" في 2013.
ومع محاولات البعض للتشكيك في صحة الخبر، خرج الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" بعدها بساعات قليلة وأصدر قرارًا صباح 22 مايو الحالي، باعتباره دستوريًا، رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي، يقضي بتعيين رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية للحرس الثوري الإيراني، الجنرال "علي أكبر أحمديان" أمينًا جديدًا للمجلس الأعلى خلفًا لـ"شمخاني"، ولإسكات أية أصوات تقول إن هناك خلاف بين "شمخاني" والمؤسسة الحاكمة وعلى رأسها المرشد الإيراني "علي خامنئي"، فقد أصدر الأخير مساء 22 مايو الحالي، مرسومًا يقضي بتعيين "شمخاني" عضوًا جديدًا في مجمع تشخيص مصلحة النظام ومستشارًا سياسيًا له.
استقالات غامضة
تجدر الإشارة إلى أن "شمخاني" ذا الأصول العربية الذي ينتمي لعائلة من قبيلة الشميخات، ويبلغ من العمر 67 عامًا، وينحدر من مدينة الأهواز بمحافظة خوزستان في غرب إيران، وتدرج في عدة مناصب بالقوات البحرية وبالحرس الثوري الإيراني، إذ كان نائب القائد العام للحرس الثوري، وقد نجح خلال الفترة الماضية بإبرام عدد من الاتفاقيات والمفاوضات لحلحلة العلاقة بين إيران والدول العربية، لذلك مثلت استقالته قرارًا مفاجئًا، لدرجة أن البعض قد شكك فيها، ما دفع "شمخاني" لكتابة بيت شعر على حسابه بموقع تويتر، أكد فيه صحة القرار ولكن بشكل غير مباشر، في حين أن البعض الآخر، قال إن "شمخاني" تمت إقالته، لرؤيتهم أن رجال النظام الإيراني يتم تنحيتهم وتعيين آخرين بدلًا منهم.
وهذه الاستقالة ليست الأولى التي أثارت الجدل حولها في عهد المرشد الإيراني "علي خامنئي" وقيل إنها "إقالة" وليست "استقالة"، فمثلًا، استقالة عضو مجلس صيانة الدستور "صادق آملي لاريجاني" من منصبه في سبتمبر 2021، وإصدار المرشد مرسومًا قضي بتعين "أحمد حسيني خراساني" بدلًا من "صادق لاريجاني"، أثارت وقتها الجدل، وظهرت تكهنات تفيد بأن السبب هو منع شقيقه "علي لاريجاني" من خوض الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي نجح فيها الرئيس "إبراهيم رئيسي".
وأما الاستقالة الثالثة، هي استقالة وزير الخارجية الإيراني السابق "محمد جواد ظريف" في 25 فبراير 2019، إذ خرج وقتها "ظريف" في منشور على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي "انستجرام" اعتذر فيه عن مواصلة عمله، قائلًا، "أعتذر لكم عن أي تقصير وقصور بدر مني خلال مدة خدمتي، وأشكر الشعب الإيراني والمسؤولين"، ووقتها كشفت تكهنات بأن السبب هو المقابلة التي جمعت المرشد الأعلى والرئيس السوري "بشار الأسد" بالعاصمة طهران دون حضور "ظريف"، وهو ما اعتبره تجاهلًا لدور الوزير الإيراني، في حين قال آخرون إن الاستقالة بسبب خلافات بين "ظريف" وأعضاء من الحكومة الإيرانية.
ويؤكد ما تقدم، أن الاستقالات الغامضة والمفاجئة في عهد المرشد "علي خامنئي" ليست بجديدة، ولطالما قيل إنها “إقالة" نظرًا لعدم نشر الخطاب الخاص بهذه الاستقالات، ولكن اللافت في الأمر، أن غالبية هذه الاستقالات كان وراءها التيار المحافظ الحاكم، الذي يسعى باستمرار لعدم وجود أصوات معارضة له بجميع مفاصل السلطة الحاكمة، إذ يسعى لجعل جميع قرارات ورؤى البلاد الداخلية والخارجية متجانسة وذات طبيعة سياسية موحدة، لإحكام قبضتهم على مراكز صنع القرار الإيرانية.
دلالات الاستقالة
وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول، إن استقالة "شمخاني" تأتي بالتزامن مع جملة من التحركات أجراها الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني خلال الفترة الماضية، وقد تكون السبب الرئيس وراء استقالته، ويمكن إبرازها على النحو التالي:
(*) إبرام الاتفاقيات مع الدول الإقليمية: برز دور "شمخاني" بشكل كبير منذ مطلع العام الجاري، وتحديدًا في شهر مارس الماضي، إذ قاد مفاوضات بلاده مع السعودية، وفي 10 مارس الماضي، أبرم "اتفاقًا تاريخيًا" قضى بإعادة العلاقات بين السعودية وإيران برعاية صينية بعد قطيعة دامت سبع سنوات، أما في 16 مارس الماضي، زار "شمخاني" الإمارات، وخلالها أبرم اتفاقًا على تسهيل التجارة بين البلدين، وبعد الزيارة تم الإعلان عن عودة السفير الإيراني إلى أبو ظبي في أقرب وقت، وبالاتجاه إلى العراق، فقد وقع "شمخاني" اتفاقًا مع بغداد في 19 مارس الماضي، قضي بالتنسيق في حماية الحدود المشتركة بين البلدين من هجمات الجماعة الكردية، ورغم ذلك، فإن التيار المحافظ داخل الجمهورية الإيرانية، احتج بشدة على الاستعانة بأمين المجلس الأعلى للأمن القومي لقيادة هذه التحركات معتبرًا إياها تقليصًا من دور وزارة الخارجية الإيرانية، وكان سبب الاعتراض أيضًا أن قائد المفاوضات مع الدول الإقليمية هو "عربي الأصل"، وهم لا يريدون أن يتم تسجيل هذه النجاحات الدبلوماسية باسم شخص عربي الأصل.
(*) الفشل في قمع الاحتجاجات الإيرانية: في سبتمبر الماضي، اندلعت احتجاجات في جميع أرجاء الجمهورية الإيرانية جراء مقتل الشابة الكردية "مهسا أميني" على يد "شرطة الأخلاق الإيرانية" لعدم التزامها بقواعد لباس الحجاب، وأثبتت هذه الاحتجاجات عجز النظام الإيراني لدرجة أنها دفعته لحل شرطة الأخلاق بعد ضغط المتظاهرين، وهو الأمر الذي جعل بعض المتشددين الأصوليين يطالبون بإقالة قائد الحرس الثوري "شمخاني" لزعمهم أنه فشل في التعامل مع هذه الاحتجاجات، وتسربت وقتها "رسائل صوتية" لـ"حميد رسائي" البرلماني الأصولي، طالب فيه بإقالة "شمخاني" وقال إنه لم ينجح في قمع الاحتجاجات بشكل أفضل.
(*) إعدام "أكبري" نائب وزير الدفاع السابق: بعد تنفيذ السلطة القضائية الإيرانية في 14 يناير الماضي، حكم الإعدام على "علي رضا أكبري" بعد إدانته في قضية التخابر لصالح وكالة المخابرات البريطانية (إم آي 6) ((M.I.6، ظهرت مطالبة بضرورة إقالة "شمخاني" واتهموه بالفشل في تأدية واجبه بكفاءة في المجال الأمني، لدعمه جواسيس بالبلاد، وذلك لأن "أكبري" اتهم بالحصول على معلومات استخباراتية من "شمخاني" خاصة أنه عمل في ظل تولي الأخير لوزارة الدفاع الإيرانية في عهد الرئيس الإيراني "محمد خاتمي" (الذي تولي رئاسة إيران فترتين، الأولى 1997، والثانية في 2005).
(*) استعداد "شمخاني" للترشح للانتخابات الرئاسية: من ضمن أسباب استقالة "شمخاني" هو رغبة الأخير في الاستعداد للترشح للانتخابات الرئاسية الإيرانية المزمع انعقادها في 2025، ومنافسة الرئيس الإيراني الحالي "رئيسي"، خاصة بعدما ظهرت بعض التكنهات باستبعاد فرص الأخير للفوز بفترة ولاية ثانية، نظرًا لفشله في حل الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وتجدر الإشارة إلى أن "شمخاني" سبق ورشح نفسه في انتخابات عام 2001، التي فاز فيها الرئيس "محمد خاتمي"، وكشف موقع "ميدل إيست آي" البريطاني أنه حصل على معلومات من مصدر مقرب من "شمخاني" تفيد بتخطيط الأخير لترشيح نفسه بالانتخابات المقبلة، وتوقع أن يقبل "مجلس صيانة الدستور" وقتها أوراق ترشحه، وأن يحظى قرار الترشح بدعم من المرشد "خامنئي"، ولعل قرار الأخير بتعيين الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي، مستشارًا له من أبرز الدلائل على ذلك.
(*) إحباط مساعي "شمخاني" لحل الاتفاق النووي: بعد توقف مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا، وفشل الخارجية الإيرانية حتى الآن في حل الملف النووي، واستمرار العقوبات الأمريكية على البلاد التي أثرت بشكل سلبي على اقتصاد البلاد وعملته المحلية، فقد كشفت بعض المصادر الإيرانية المقربة من دوائر صنع القرار لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني، أن "شمخاني" أبدى رغبته خلال الفترة الماضية للحصول على تفويض لإحياء الاتفاق النووي، وأرسل خطابًا للمرشد "خامنئي"، كتب فيه، (دعني أُنهِ العمل على الاتفاق)، إلا أن هذا الطلب قوبل برفض من قبل المرشد، وأضاف أن "شمخاني" حاول أيضًا الحصول على تفاصيل محادثات الاتفاق النووي التي أجرتها إيران مع واشنطن، من المفاوض النووي الإيراني "علي باقري كني"، وبعدها اتجه الأصوليون إلى الترويج لمزاعم بأن أبناء "شمخاني" استخدموا بعض الناقلات النفطية التي يمتلكونهم لتهريب النفط الإيراني، وعليه، تكون محاولات التيار الأصولي خاصة المقربين من المرشد لإبعاد "شمخاني" عن الملف النووي، وراء تقديم الأخير لاستقالته.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن استقالة أو إقالة "شمخاني" ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل القبضة الأمنية للمحافظين على السلطة، مع الإشارة إلى أن هذه الاستقالة لن تؤثر كثيرًا سواء على سياسات المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني أو على إدارة إيران للملفات الخارجية، كون أن ملامح السياسة الخارجية الإيرانية يحددها المرشد الأعلى "خامنئي" وليست مرتبطة بشخص بعينه، ولكن اللافت للنظر أنه يبدو أن العلاقة بين المرشد و"شمخاني" قوية، وقد يكون ذلك سببًا لاستمرار وجود الأخير بأهم دوائر صنع القرار في الجمهورية الإيرانية.