على ضوء هجوم إسرائيلي محتمل ردًا على هجومها الصاروخي مطلع أكتوبر الجاري، تكثّف إيران جهودها الدبلوماسية في المنطقة لتقييد نطاق التصعيد والتلويح بردود قوية على الجانب الإسرائيلي ومصالح حلفائه الغربيين حال تجاوز تل أبيب الخطوط الحمراء، حيث يجري وزير الخارجية عباس عراقجي جولة دبلوماسية لتسع محطات بدءًا من لبنان وسوريا إلى قطر والسعودية والعراق وسلطنة عُمان والأردن ومصر وتركيا، أكدت أهمية تعزيز المشاورات الدبلوماسية مع دول المنطقة لوقف إطلاق النار في لبنان وغزة وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية الدولية للنازحين واللاجئين جراء العدوان الإسرائيلي.
كان من اللافت ما حرصت طهران على تصديره من أهداف تلك الزيارة والتصريحات المتضاربة بشأن التصعيد، وإمكانية فصل الجبهات بالتوازي مع تصعيد إسرائيلي مماثل يربط وقف إطلاق النار في لبنان بعودة المحتجزين في غزة، في إطار تبادل الرسائل بالتصعيد الدبلوماسي والميداني.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي محددات الموقف الإيراني في إدارة التصعيد مع إسرائيل وموقع العلاقات الإيرانية العربية في التصعيد الراهن وانعكاساتها على آفاق إنهاء الحرب.
رسائل مزدوجة
جاءت الجولة الدبلوماسية الإقليمية لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي وزيارة رئيس البرلمان والقائد الأسبق للحرس الثوري الإيراني محمد باقر قاليباف إلى لبنان في سياق مساعي الإدارة الإيرانية الحالية لإعادة ضبط العلاقات الإيرانية العربية منذ تولي د. مسعود بزشكيان رئاسة البلاد في يوليو الماضي، إلا أن أجواء التصعيد المتسارع في المنطقة منذ ذلك الحين عزّزت ذلك التوجه في ضوء المخاطر المحتملة التي باتت تهدد بدخول طهران لساحة الحرب في مواجهة إسرائيل، ويمكن توضيح رسائل تلك الجولة على النحو التالي:
(*) التصدي والمواجهة: مثلت زيارات المسؤولين الإيرانيين إلى لبنان بعد موجة التصعيد الحالي رسائل تحدي للجانب الإسرائيلي الذي أعلن حصارًا جويًا وبحريًا وبريًا والتلويح باستهداف أي طائرات إيرانية تدخل الأجواء اللبنانية ضمن استراتيجيته لإعادة ترسيم خريطة المواجهة بإضافة لبنان إلى ساحات المواجهة المباشرة وفصلها عن باقي جبهات الإسناد.
وجاءت زيارة رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، يوم السبت 12 أكتوبر 2024، ولقاءه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري وعدد من المسؤولين ونواب "حزب الله" للتأكيد على دعم إيران للحزب وأن طهران ستظل فاعلًا في المشهد اللبناني، وهو ما أشارت إليه صحيفة "كيهان" المحافظة بأن الزيارة تمثل رسالة دعم من المرشد الأعلى والشعب الإيراني إلى "الشعب والحكومة والمقاومة" في لبنان وتأكيد على مبدأ وحدة الساحات أولًا، وكسرًا لـ"احتكار أمريكا للملف اللبناني" ثانيًا.
وحملت زيارة وزير الخارجية إلى بيروت في 4 أكتوبر الجاري رسائل لمختلف الجهات داخل وخارج لبنان، ليؤكد الرسالة ذاتها خاصة للداخل اللبناني سياسيًا وشعبيًا، مشيرًا إلى أن بلاده "كانت ولا تزال داعمة للبنان، وكانت ولا تزال داعمة للبنانيين الشيعة، وكانت ولا تزال داعمة لحزب الله"، في إشارة إلى أن المعادلة التي كانت قائمة قبل الحرب لن تتأثر بالمواجهات بين حزب الله وإسرائيل ولا أفق للتغيير إلا بعد انتهاء الحرب، وهو ما أشار إليه نائب أمين عام الحزب نعيم قاسم في 8 أكتوبر 2024، موكلًا مهمة التفاوض بشأن وقف إطلاق النار لرئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل نبيه بري.
(*) التنسيق والتشاور الدبلوماسي مع دول الجوار: وسّعت إيران من نطاق تحركاتها الدبلوماسية بدول المنطقة وبصفة خاصة دول الخليج العربي والعراق باعتبار الدول الثمانية (العراق والسعودية والإمارات والكويت وعُمان وقطر والبحرين وإيران) وحدة واحدة تشكل منطقة الخليج وفق الخطاب الإيراني، وهو ما كان موضع تأكيد في عدد من المناسبات منذ زيارة الرئيس الإيراني للعراق في أول زيارة خارجية في 11 سبتمبر 2024، ولقاء نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية مجيد تخت روانجي مع ممثلي دول المنطقة في طهران منتصف سبتمبر الماضي. وتزامنًا مع ارتفاع منسوب التصعيد في أكتوبر الجاري عقد الجانبين الخليجي والإيراني اجتماعًا غير رسمي في الدوحة 3 أكتوبر الجاري على هامش قمة حوار التعاون الآسيوي، شملت التأكيد على خفض التصعيد والتحلي بضبط النفس، وأهمية مواصلة اللقاءات الثنائية للوصول إلى تفاهمات تعزز المناخ الإيجابي اللازم لتطوير العلاقات.
وعلى الرغم من تأكيد الجانب الإيراني أن اللقاءات الحالية مع دول الجوار في المنطقة العربية وكذلك الجانب الأذري تستهدف التركيز على خفض التصعيد الإقليمي، إلا أنها لم تخل من رسائل للجانب الإسرائيلي باستعداد طهران لكافة السيناريوهات والتلويح باستهداف مصالح الحلفاء الغربيين حال دعمهم للهجوم الإسرائيلي المرتقب، وفي الوقت ذاته الدعوة لقمة أخرى لمنظمة التعاون الإسلامي للرد على العدوان الإسرائيلي بلبنان وغزة.
ووجّه الرئيس مسعود بزشكيان خلال لقائه مع نائب رئيس وزراء أذربيجان شاهين مصطفى في 14 أكتوبر 2024 دعوة صريحة لتطويق وعزل الجانب الإسرائيلي دبلوماسيًا وعدم إعطاء "موطئ قدم للدول الأجنبية" في المنطقة (جنوب القوقاز) حيث أشار خلال اللقاء لأهمية احترام سيادة الدول وإمكانية العمل المشترك لحل القضايا العالقة وتوفير الأمن لدول المنطقة، وذلك في ظل العلاقات الاستراتيجية التي تربط أذربيجان بإسرائيل.
(*) التحوط الأمني والدبلوماسي: تبدي إيران اهتمامًا بتوجيه رسائل مزدوجة لدول الإقليم، ترغب من خلالها بالحفاظ على نفوذها الإقليمي من ناحية، وتسعي لإبراز الجانب الدبلوماسي في تعزيز التواصل والتفاهم مع دول المنطقة وحتى الولايات المتحدة من ناحية أخرى باعتبارها فاعل (عقلاني) رئيسي في المنطقة ولا يمكن تسوية الأزمات القائمة دون مشاركته، فضلًا عن إبراز موقفها الدفاعي في المواجهة الراهنة مع إسرائيل، وهو ما عبرت عنه التصريحات السابقة للرئيس بزشكيان حول مبدأ المصلحة في مبادئ سياسته الخارجية وانفتاحه الحوار والتفاوض مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
إجمالًا؛ يمثل التحول في نمط التصعيد الإسرائيلي الإيراني الذي يرمي إلى اختبار نقاط القوة والضعف لدى الخصم عبر المواجهات المباشرة محدودة الأهداف سمة مستجدة لاختبار توازن القوى الإقليمي في ضوء الحرب على غزة وتوسيع الصراع بالشرق الأوسط. إن مخاوف طهران من العزل والتطويق الدبلوماسي وتهديد عمقها الاستراتيجي ورغبتها بالتوازي مع نواياها لتعزيز التعاون الاقتصادي مع دول الجوار لا تتناسب مع أزمة الثقة وحجم المخاوف التي عبّرت عنها دول المنطقة من استغلال أراضيها وأجوائها في التصعيد الإيراني الإسرائيلي وتوسيع رقعة الصراع بالمنطقة، وهو ما لا يخدم حتمًا التفاهم المبدئي بين طهران ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه التحديد في الاجتماع غير الرسمي 3 أكتوبر الجاري حول مواصلة التشاور لخلق بيئة إيجابية تسهم في تعزيز العلاقات وإحلال الاستقرار في المنطقة.