في يوم الاثنين 14 أكتوبر 2024، أصدرت قيادة الأركان العامة للجيش المالي بيانًا رسميًا أكدت فيه مقتل القيادي المدعى "العزة ولد يحيى" المُلقَب بـ"جليبيب الأنصاري"، أثناء هجوم استهدف ثكنة عسكرية تتبع الجيش المالي في قرية بير على بُعد 70 كيلومترًا إلى الشرق من مدينة تمبكتو التاريخية، ونجح الجيش المالي في ملاحقة مجموعة يقودها "الأنصاري" من مقاتلي القاعدة، وبدأ الهجوم في 8 أكتوبر 2024 بتفجير ثلاث سيارات مفخخة، تلاه تبادُل عنيف لإطلاق النار بالمدفعية الثقيلة.
ووفقًا لما أعلنته "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، خسرت الجماعة ثمانية من مقاتليها، وفق ما أفاد سكان المنطقة والذين أكدوا أن القتال استمر لساعات بين الجيش المالي ومقاتلي التنظيم حول القاعدة العسكرية التي كانت قد بُنيت سابقًا من قِبَل بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام قبل تسليمها للجيش المالي، التي تتعرض بشكل متكرر لهجمات من تنظيم القاعدة.
ويُعد "جليبيب الأنصاري" قائد مجموعة من مقاتلي "سرية القدس"، وهو أحد أفراد قبيلة لبرابيش ذات الأصول العربية، وذات النفوذ الواسع في شمال دولة مالي وبعض دول الجوار تحديدًا موريتانيا، ويُعرف بأهميته المحورية في تنظيم القاعدة بتوليه مسؤوليات قيادية في التخطيط للهجمات الكبرى.
تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما تأثير مقتل القيادي "جليبيب الأنصاري" على مستقبل تنظيم القاعدة في الساحل الإفريقي؟
أهداف متنوعة
قد يُفهَم مقتل "جليبيب الأنصاري" من خلال تأويلات متعددة ترتبط بسياقات مختلفة، تتمثل في:
(*) رغبة تنظيم القاعدة في تحدِي الهيمنة العسكرية للجيش المالي: يعكس الاستهداف القاعدي للمواقع العسكرية قدرة التنظيم على تنفيذ عمليات متطورة تتطلب تنسيقًا عاليًا واستخبارات دقيقة، خاصًة أن تلك المواقع العسكرية تشكل تهديدًا كبيرًا لنجاح العمليات الإرهابية التي تسعى القاعدة لتنفيذها، فالاستهداف بمثابة خطوة تكتيكية تهدف إلى إحداث أكبر قدر من الدمار وخلق فوضى داخل القاعدة العسكرية التابعة للجيش المالي. كما باتت الاستراتيجية التي يتبعها التنظيم متطورة، إذ يسعى لإضعاف التحالفات بين الحكومة المالية والقوات الروسية من خلال مجموعة "فاجنر" الروسية، ومع التوترات المتصاعدة بين القوى الغربية وروسيا في إفريقيا، يحاول التنظيم عرقلة الجهود التي تبذلها روسيا الساعية لتحويل مالي إلى ساحة سياسية للتنافس بين القوى الكبرى. لذا، على الرغم من خسارة القاعدة قيادي بارز كـ"الأنصاري"، إلا أن الهدف كان أسمى لتحقيق انتصارًا على الجيش المالي.
(*) رغبة الجيش المالي في رد اعتباره عقب الهجوم القاعدي الأخير: يسعى الجيش المالي إلى تفكيك تنظيم القاعدة، من خلال استهداف قياداته في الصف الأول باتباع استراتيجية "قطف الرؤوس"؛ نظرًا لأن استهداف القادة سيؤدي إلى تراجُع الروح المعنوية للمقاتلين، وفقدان القدرة على تنفيذ العمليات المعقدة، وفقدان ثقة المجتمعات المحلية في تنظيم القاعدة إذا بدأت ترى أن قادته يتم استهدافهم بنجاح. فضلًا عن رغبة الجيش المالي في تثبيط العمليات الإرهابية التي تنفذها جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التي أعلنت مسؤوليتها عمّا لا يقل عن 50 عمليّة ضد قوات الجيش في مالي وبوركينا فاسو، إضافة إلى رغبة الجيش الحقيقية في رد اعتباره في الهجوم الإرهابي الذي استهدف مدرسة الدرك العسكرية في فالادجي ومطار سينو موديبو كيتا الدولي في 17 سبتمبر 2024.
تداعيات محتملة
يحمل إعلان الجيش المالي تحييد مقاتلي تنظيم القاعدة، ومقتل القيادي "جليبيب الأنصاري"، في طياته تداعيات مؤثرة، تتمثل أبرزها في:
(*) شلل مؤقت في الهيكل القيادي لتنظيم القاعدة: لم يعد مقتل "الأنصاري" مجرد فقدان لقائد ميداني، بل بمثابة ضربة قاصمة للهيكل القيادي للتنظيم؛ لكونه أحد العقول المدبرة وراء التخطيط الاستراتيجي للتنظيم في منطقة الساحل الإفريقي، وبالتالي سيترك غيابه فراغًا قياديًا يصعب ملؤه على المدى القصير، وتتسبب هذه الخسارة في حدوث فوضى داخلية وشلل مؤقت في قدرة التنظيم على اتخاذ قرارات سريعة في تنفيذ عمليات منسقة. لكن، أثبت تنظيم القاعدة خلال السنوات الماضية قدرته على إعادة تشكيل الصفوف والاعتماد على قيادات جدد في كل ضربة توجه له، من خلال تأقلمه بسرعة، ووجود خطط بديلة في حالة استهداف القادة وتعيين خليفة آخر لهم.
(*) تصاعُد موجة العنف الانتقامي: قد يرى تنظيم القاعدة أن مقتل الأنصاري صفعة مهينة تستوجب الرد العنيف على الجيش المالي، فمن المحتمل إطلاق التنظيم سلسلة من الهجمات المكثفة، ليس فقط على الجيش المالي، بل القواعد العسكرية والشركاء الدوليين مثل مجموعة فاجنر الروسية. لذا، ستكون ردة الفعل الانتقامية قاسية وتستهدف المدنيين والعسكريين على حدٍ سواء من خلال تنفيذ هجمات انتحارية أو تفجيرات عشوائية في مناطق ميدانية؛ لاستهداف قدرات الجيش المالي تدريجيًا؛ في محاولة لإظهار قدرة التنظيم على الفتك والتنبيه على أن خسارة الأنصاري لن تمر مرور الكرام دون عواقب، وأن التنظيم لا يزال قوة يُحسَب لها حساب.
(*) إعادة رسم خارطة التحالفات بين الجماعات الإرهابية في الساحل الإفريقي: إن الأهمية المحورية لـ"الأنصاري" في تنظيم القاعدة، جعلت مقتله ضربة موجعة لجماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة للتنظيم. ومن أجل الانتقام، لا نستبعد تجدُد الاتفاق المرحلي الذي تم في فبراير 2024 بين فرعَي تنظيم القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) وداعش (ولاية الساحل)، وينص الاتفاق على رغبة الطرفين في عزل المنطقة الشمالية لمالي عن الجنوب، وإلحاق الجيش المالي وقوات فاجنر الروسية خسائر فادحة؛ لخدمة مصالح التنظيمين في توسيع نطاق نفوذهما وسيطرتهما الجغرافية. وبالنظر إلى المعارك بين الجيش المالي والتنظيمات الإرهابية في الآونة الأخيرة، فإن التنظيمات الإرهابية باتت تركز على إضعاف القدرات العسكرية للجيش المالي، بدلًا من انشغال التنظيمين في قتال بعضهما البعض.
وبملاحظة استهداف القادة في كلا التنظيمين، كاستهداف العقل المدبر لتنظيم داعش "عبد الوهاب ولد شعيب" في 21 يناير 2024، واستهداف قائد داعش البارز "أبو حذيفة" في 29 أبريل 2024، انتهاءًا بالقيادي القاعدي "العزة ولد يحيى" في 8 أكتوبر 2024، سيكون للاتفاق المرحلي نصيب من الازدهار خلال الفترة المقبلة؛ كنوع من رد الاعتبار على الاستهداف المتصاعد.
(*) تعزيز التحالفات الإقليمية والدولية: يُعد إعلان الجيش المالي عن نجاحه في مقتل "الأنصاري"، بمثابة نصر عسكري يعزّز من شرعيته المحلية والإقليمية، ومن ثمّ عادت ثقة المدنيين إلى حدٍ ما في قدرة الجيش على كبح الوجود الإرهابي بالمنطقة، كما قد يؤدي هذا النجاح إلى زيادة الدعم المالي للجيش سواء من خلال التمويل أو التدريب أو المعدات العسكرية؛ من أجل مواجهة التنظيمات الإرهابية بشكل أكثر فعالية، وتنفيذ عمليات نوعية تجبر التنظيمات على التقهقر.
ختامًا، يمكن القول إن مقتل القيادي البارز في تنظيم القاعدة "جليبيب الأنصاري"، يُمثل نقطة تحوُل فارقة في المواجهة المتصاعدة بين الجيش المالي وتنظيم القاعدة تحديدًا جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، ورغم أن الجيش المالي أظهر قدرته على توجيه ضربات دقيقة ضد قادة التنظيمات الإرهابية خلال العام الجاري، إلا أن هناك تحديات قائمة تكمن في قدرة الجيش المالي على مواجهة التداعيات الانتقامية التابعة لهذا الانتصار، ومن ثمّ تجفيف منابع الإرهاب ومعالجة الأسباب التي تغذيه من خلال التخطيط الدقيق من الجيش المالي والتعاون الدولي؛ لضمان أن هذه الانتصارات التكتيكية تُترجَم إلى استقرار استراتيجي في منطقة الساحل الإفريقي.