انطفأت الشعلة الأولمبية في باريس، معلنة نهاية دورة ناجحة للألعاب الأولمبية الصيفية، لكنها أيضًا أشعلت فتيل عودة الأزمة السياسية في فرنسا، إذ يجد إيمانويل ماكرون نفسه الآن في مواجهة استحقاقات سياسية مُلحة، على رأسها تعيين رئيس وزراء جديد، وتشكيل حكومة في ظل برلمان منقسم، في هذا الصدد سلطت صحيفة "لوموند" الضوء على تفاصيل التحديات التي تواجه الرئيس الفرنسي والسيناريوهات المحتملة للمرحلة المقبلة.
عودة للواقع السياسي المعقد
بعد أسابيع من الاحتفالات والفخر الوطني بنجاح تنظيم الألعاب الأولمبية، تعود فرنسا بسرعة إلى واقعها السياسي الصعب، إذ وفقا لصحيفة لوموند الفرنسية، فإن ماكرون الذي استمتع بلحظات الوحدة الوطنية خلال الألعاب، يجد نفسه الآن أمام استحقاق تعيين رئيس وزراء جديد بعد خمسة أسابيع من انتهاء الانتخابات التشريعية. هذه الانتخابات شهدت تراجعًا كبيرًا لتحالف ماكرون الرئاسي، حيث خسر 73 مقعدًا في الجمعية الوطنية؛ مما أدى إلى فقدانه الأغلبية المطلقة.
تشير الصحيفة إلى أن ماكرون أجرى مشاورات مكثفة خلال إقامته في قلعة بريجانسون، حيث اختبر عدة أسماء لرئاسة الوزراء مع مستشاريه المقربين، دون الكشف عن نواياه النهائية، هذا الغموض يزيد من حدة التكهنات والضغوط السياسية على الرئيس الفرنسي.
معضلة ماكرون الكبرى
يواجه ماكرون معضلة في اختيار رئيس وزراء قادر على تشكيل حكومة تحظى بدعم برلماني كافٍ، وفي هذا الصدد تنقل لوموند عن مصادر في قصر الإليزيه أن الرئيس الفرنسي يسعى لتشكيل "تحالف واسع ومستقر قدر الإمكان"، إلا ان الانقسامات العميقة داخل البرلمان تجعل هذه المهمة شاقة للغاية.
فمن جهة، يرفض تحالف اليسار بقيادة جان-لوك ميلانشون أي تعاون مع ماكرون، معتبرًا أن نتائج الانتخابات التشريعية تمثل رفضًا لسياسات الرئيس. ومن جهة أخرى، يرفض اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان منح الثقة لأي حكومة يشكلها ماكرون.
هذا الوضع يترك الرئيس الفرنسي أمام خيارات محدودة للغاية، قد تدفعه للبحث عن تحالفات مؤقتة أو حتى تشكيل حكومة أقلية.
دعوات للإسراع في تشكيل الحكومة
مع مرور الوقت، تتزايد الضغوط على ماكرون للإسراع في تعيين رئيس وزراء جديد، إذ تنقل لوموند عن جاسبار جانتزر، المستشار السابق للرئيس فرانسوا هولاند، انتقادات حادة لتأخر ماكرون في اتخاذ هذه الخطوة.
يقول جانتزر: "عدم تعيين رئيس وزراء في أعقاب الاقتراع الذي عاقبه بشدة (ماكرون) هو شذوذ ديمقراطي، إنه يتصرف كما لو أن الانتخابات التشريعية لم تحدث، رغم أن الفرنسيين شاركوا فيها بكثافة".
ويضيف جانتزر أن هذا التأخير "يعزز فكرة أن التصويت لا يجدي نفعًا، وأن المؤسسات لا فائدة منها"، وهو ما يمثل خطرًا على الديمقراطية الفرنسية على المدى الطويل.
خيارات ماكرون المحدودة
تكشف لوموند عن ملامح الشخصية التي يبحث عنها ماكرون لمنصب رئيس الوزراء، إذ إن الأخير يريد شخصية "معترف بها" و"تتمتع بخبرة قوية في شؤون الدولة" و"محترمة على جميع مقاعد القوى الجمهورية". ومع ذلك، فإن خياراته محدودة بسبب رفضه تغيير سياساته الأساسية.
وقد أشارت الصحيفة إلى احتمال تعيين شخصية من اليمين، رغم أن حزب الجمهوريين حل رابعًا في الانتخابات التشريعية ولا يملك سوى 47 نائبًا. هذا الخيار، إن تحقق، سيثير حفيظة اليسار الذي يرى أنه يتجاهل نتائج الانتخابات ورغبة الناخبين في التغيير.
التحديات الاقتصادية الملحة
بعيدًا عن التعقيدات السياسية، تواجه الحكومة الفرنسية القادمة تحديات اقتصادية عاجلة، فحسب لوموند، يتعين على فرنسا تقديم خطتها متوسطة المدى لتصحيح مسارها المالي إلى المفوضية الأوروبية بحلول 20 سبتمبر، بعد وضعها تحت إجراء العجز المفرط.
كما أن إعداد الميزانية يجب أن يكتمل بحلول نهاية سبتمبر لتقديمها إلى الجمعية الوطنية في أوائل أكتوبر، ما يضع ضغوطًا إضافية على ماكرون للإسراع في تشكيل حكومة قادرة على التعامل مع هذه الملفات الحساسة.
استثمار النجاح الأولمبي
رغم التحديات السياسية، يسعى ماكرون للاستفادة من النجاح الكبير للألعاب الأولمبية في تعزيز الوحدة الوطنية، إذ نقلت الصحيفة الفرنسية عن الرئيس الفرنسي قوله: "الفرنسيون أعادوا اكتشاف أنهم يستطيعون فعل أشياء عظيمة معًا"، مضيفًا أنه يريد "الاستفادة" من هذا النجاح.
ماكرون يحاول تقديم نموذج التعاون بين مختلف الأطراف السياسية في تنظيم الألعاب الأولمبية كمثال يمكن تكراره في إدارة شؤون البلاد، لكن المعارضة ترى في هذا الخطاب محاولة لتجاهل نتائج الانتخابات والالتفاف على إرادة الناخبين.