في تطور لافت قد يغير وجه السياسة الفرنسية، رشحت أحزاب اليسار الفرنسي النائب الشيوعي أندريه شاسين لرئاسة الجمعية الوطنية "البرلمان"، وإذا نجح في الانتخابات المقرر لها اليوم الخميس 18 يوليو، سيصبح شاسين أول شيوعي يتولى هذا المنصب الرفيع في تاريخ فرنسا.
ووفقًا لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، يمثل هذا الترشيح تحديًا للوضع السياسي القائم وفرصة تاريخية لليسار الفرنسي.
مسيرة سياسية حافلة
بدأ "شاسين" مسيرته السياسية في سنّ مبكرة، إذ انضم إلى الحزب الشيوعي وهو في السادسة عشرة من عمره، وعلى مدى عقود بنى قاعدة سياسية صلبة من خلال العمل على المستوى المحلي.
وشغل "شاسين" عدة مناصب محلية مهمة، بما في ذلك رئاسة بلدية سانت أمان روش سافين، ومنصب المستشار الإقليمي لمنطقة أوفيرن، بالإضافة إلى دوره كمستشار عام لمقاطعة بوي دو دوم، بحسب "ليبراسيون".
هذا العمل الدؤوب على المستوى المحلي مهد الطريق لشاسين للوصول إلى البرلمان الفرنسي لأول مرة في عام 2002، ومنذ ذلك الحين حافظ على مقعده البرلماني، وها هو اليوم يبدأ فترته النيابية السادسة وهو في الرابعة والسبعين من عمره.
كما تولى النائب الشيوعي منصب رئيس المجموعة النيابية "اليسار الديمقراطي والجمهوري" (التي تضم النواب الشيوعيين وحلفاءهم) منذ عام 2012، ما يعكس ثقة زملائه في قدراته القيادية.
شعبية تتحدى السياسة
يشير تقرير ليبراسيون إلى أن شاسين يتمتع بشعبية استثنائية في دائرته الانتخابية، إذ نجح في الاحتفاظ بمقعده البرلماني مرارًا وتكرارًا، محققًا نسب تصويت مرتفعة.
وما يثير الدهشة أنه حتى في خضم الموجة الماكرونية الكاسحة التي اجتاحت فرنسا في انتخابات 2022، ظل شاسين صامدًا في دائرته الانتخابية، وفاز بنسبة مذهلة بلغت 69.5% من الأصوات، وهو ما يؤكد قوة قاعدته الشعبية وقدرته على تجاوز الانقسامات الحزبية التقليدية.
التقليدية والتجديد
يبرز أندريه شاسين في المشهد السياسي الفرنسي كشخصية فريدة تجمع بين القيم التقليدية لليسار والتوجهات الحديثة، خاصة في مجال حماية البيئة.
فوفقًا لتقرير "ليبراسيون"، يُعرف شاسين بدفاعه القوي عن حقوق المزارعين وتحسين أجورهم، وهي قضايا تقليدية لليسار الفرنسي، لكن ما يميزه عن العديد من رفاقه في الحزب الشيوعي هو التزامه الراسخ بالقضايا البيئية، وهو موقف أقل شيوعًا في الحزب الشيوعي مقارنة بباقي أحزاب اليسار.
تجلى هذا الالتزام بشكل واضح في عام 2008، عندما لعب شاسين دورًا محوريًا في إفشال مشروع قانون حكومة فرانسوا فيون حول المنتجات المعدلة وراثيًا، بعد أن نجح في تقديم تعديل استراتيجي يقيد بشدة زراعة هذه المنتجات، مما أدى في النهاية إلى تقويض المشروع بأكمله.
هذا الموقف الجريء أظهر قدرة شاسين على الجمع بين الدفاع عن المصالح العمالية التقليدية والاهتمام بالقضايا البيئية الملحة، وهو نهج يعكس رؤيته لتحديث الخطاب اليساري وتكييفه مع التحديات المعاصرة، وأكسبه هذا النهج احترامًا واسعًا، حتى من خصومه السياسيين.
وغالبًا ما يشيد اليمين والماكرونيون بشاسين كتجسيد لليسار "المحترم"، وإن كانوا يستخدمون ذلك أحيانًا للتنديد بخط وسلوك حركة "فرنسا الأبية"، بحسب "ليبراسيون".
وهذا المزيج الفريد من المواقف التقليدية والتقدمية جعل من شاسين شخصية محورية في اليسار الفرنسي، قادرة على بناء جسور بين مختلف التيارات السياسية، وهو ما قد يكون عاملًا حاسمًا في سعيه لرئاسة الجمعية الوطنية.
تحديات وإخفاقات
رغم نجاحاته المتعددة، لم تخل مسيرة شاسين من التحديات والإخفاقات، إذ فشل مرتين في محاولاته للترشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية.
وفي عام 2010، فضل أعضاء الحزب الشيوعي دعم ترشيح جان لوك ميلانشون ضمن إطار الجبهة اليسارية لانتخابات 2012،
كما واجه نكسة أخرى قبيل انتخابات 2017 عندما لم يحصل على دعم حزبه للترشح.
وعلى الصعيد الدولي، أثارت بعض مواقفه جدلًا واسعًا، إذ صوّت ضد اتفاقية الشراكة بين جورجيا والاتحاد الأوروبي، وكذلك ضد الاتفاقية مع أوكرانيا في عام 2016.
وبرر "شاسين" موقفه أنداك بالخوف من تدهور العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، لكن هذا الموقف جلب عليه انتقادات من خصومه السياسيين.
ومع ذلك، أظهر شاسين قدرة على التكيف مع المتغيرات السياسية، فقد صوتت مجموعته النيابية لصالح قرار دعم الجمعية الوطنية الفرنسية لأوكرانيا، وإدانة الحرب مع روسيا، ما يعكس تطورًا في موقفه استجابة للأحداث الجارية.
فرص الفوز والتحديات المستقبلية
تشير ليبراسيون إلى أن فوز شاسين برئاسة الجمعية الوطنية، رغم أهميته التاريخية، ليس أمرًا مضمونًا، فعلى الرغم من أن "الجبهة الشعبية الجديدة" التي ينتمي إليها تمثل أكبر كتلة في المجلس، إلا أنها قد تواجه تحديًا كبيرًا إذا نجح الماكرونيون واليمين في توحيد أصواتهم خلف مرشح مشترك.
في حال نجاح شاسين، سيكون ذلك بمثابة زلزال سياسي في فرنسا، إذ سيصبح أول شيوعي يتولى رئاسة الجمعية الوطنية،
وسيضع هذا الفوز اليسار الفرنسي في موقع قوة لم يشهده منذ عقود، مما قد يؤدي إلى تغييرات جوهرية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.