تقف فرنسا على حافة أزمة حكم غير مسبوقة، فبعد الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية، التي شهدت إقبالًا هو الأعلى منذ عام 1981، باتت البلاد أمام واقع جديد، وهو برلمان مُعلق وحكومة تفتقر إلى الأغلبية اللازمة لتمرير القوانين، في هذا الصدد تسلط صحيفة "فورين بوليسي" الضوء على تفاصيل هذا الوضع المعقد وتداعياته المُحتملة على مستقبل فرنسا السياسي.
صعود اليسار
في مفاجأة لم تكن متوقعة، حقق تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري انتصارًا كبيرًا، محرزًا المركز الأول بحوالي 178 مقعدًا، وتُشير فورين بوليسي إلى أن هذا يمثل زيادة لا تقل عن 47 مقعدًا عمّا حققه اليسار في انتخابات 2022.
ويعتبر هذا الانتصار الأكثر إثارة لليسار الفرنسي منذ أربعة عقود، حيث يعيد إلى الأذهان فوز فرانسوا ميتران التاريخي بالرئاسة في 1981.
داخل هذا التحالف اليساري، برز حزب فرنسا الأبية بقيادة جان لوك ميلانشون كقوة رئيسية، مما يضع ميلانشون في موقع قوي للمطالبة بدور قيادي في أي حكومة مستقبلية، إلا أن هذا الصعود اليساري يثير مخاوف لدى الوسط واليمين، خاصة مع توجهات ميلانشون المتشددة في بعض القضايا.
تراجع حاد لتحالف ماكرون
في المقابل، شهد تحالف "معًا" الوسطي بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون تراجعًا كبيرًا، إذ حل في المرتبة الثانية بحوالي 150 مقعدًا فقط، وتؤكد الصحيفة الأمريكية أن هذا يمثل خسارة فادحة تقدر بنحو 95 مقعدًا مقارنة بانتخابات 2022.
هذا التراجع يعكس حالة عدم الرضا المتزايدة عن سياسات ماكرون، حيث انخفضت نسبة الموافقة عليه إلى 26% فقط بعد دعوته لإجراء انتخابات مبكرة.
أفضل نتيجة في تاريخ اليمين
رغم عدم تحقيقه للمركز الأول كما كان متوقعًا في البداية، إلا أن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، حقق نتيجة تاريخية بحصوله على حوالي 142 مقعدًا.
وتشير فورين بوليسي إلى أن هذا يُمثل زيادة بما لا يقل عن 53 مقعدًا عن انتخابات 2022، وهو أكبر عدد من المقاعد يحصل عليه الحزب في تاريخه. هذا الصعود يتماشى مع اتجاه أوسع في أوروبا لصعود اليمين المتشدد.
تحديات تشكيل حكومة فعّالة
مع عدم حصول أي حزب أو تحالف على الأغلبية المطلقة، المتمثل في 289 مقعدًا من أصل 577، تواجه فرنسا الآن تحديًا غير مسبوق في تشكيل حكومة قادرة على العمل بفعالية.
وتوضح فورين بوليسي أن فرنسا تفتقر إلى تقليد قوي في تشكيل حكومات ائتلافية، مما يجعل المفاوضات بين الأحزاب المتنافسة أمرًا صعبًا ومعقدًا.
لتجنب الشلل البرلماني، سيتعين على الكتل الوسطية واليسارية العمل معًا لتأمين الأغلبية اللازمة لتمرير القوانين، لكن هذا التعاون يبدو صعب المنال في ظل الخلافات العميقة بين هذه الكتل، خاصة مع رفض بعض حلفاء ماكرون العمل مع بعض الأحزاب في التحالف اليساري.
دور ميلانشون وموقف ماكرون
في خطوة جريئة، دعا جان لوك ميلانشون الرئيس ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء جديد من تحالف الجبهة الشعبية.
وأكد ميلانشون أن على الرئيس "واجب" اختيار قائد من هذا التحالف الذي حصد أكبر عدد من المقاعد، إلا أن ماكرون، وفقًا لفورين بوليسي، يبدو مترددًا في اتخاذ هذه الخطوة، حيث رفض استقالة رئيس الوزراء الحالي جابرييل أتال يوم الاثنين، مؤكدًا على ضرورة "ضمان استقرار البلاد".
هذا الموقف من ماكرون يعكس حجم التحدي الذي يواجهه في إيجاد توازن بين الحفاظ على سلطته، وتشكيل حكومة قادرة على العمل في ظل البرلمان المنقسم.
سيناريوهات مستقبلية وتداعيات مُحتملة
في ضوء هذا الوضع السياسي غير المسبوق، تطرح الصحيفة الأمريكية عدة سيناريوهات مُحتملة لمستقبل فرنسا السياسي.
السيناريو الأول يتمثل في تشكيل حكومة ائتلافية هشة، حيث قد يضطر ماكرون للتفاوض مع اليسار أو اليمين المعتدل لتشكيل تحالف حاكم.
إلا أن هذا الخيار يحمل في طياته مخاطر عدم الاستقرار وصعوبة اتخاذ القرارات، أما السيناريو الثاني فيتمثل في تشكيل حكومة أقلية، حيث قد يختار ماكرون هذا المسار معتمدًا على التفاوض المستمر مع الأحزاب الأخرى، لتمرير كل قانون على حدة، وهو ما قد يؤدي إلى بطء في عملية صنع القرار وإمكانية الوصول إلى طريق مسدود في قضايا مهمة.
وفي حالة استمرار الجمود السياسي، يبرز السيناريو الثالث المتمثل في الدعوة لانتخابات برلمانية جديدة، وهو خيار يحمل مخاطر زيادة حالة عدم الاستقرار السياسي، وقد يؤدي إلى تآكل ثقة الناخبين في النظام السياسي، كما أن الدستور الفرنسي لا يسمح بإجراء انتخابات جديدة قبل صيف 2025 على أقرب تقدير.