تُواجه فرنسا أزمة سياسية مُتصاعدة بشأن اتفاقية التجارة المرتقبة بين الاتحاد الأوروبي ودول أمريكا الجنوبية "ميركوسور"، إذ إنه وفقًا لصحيفة "بوليتيكو" النسخة الفرنسية، فإن باريس تجد نفسها في موقف معزول سياسيًا، مع تزايد الضغوط من شركائها الأوروبيين لإتمام الصفقة، في وقت يُعاني فيه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من ضعف سياسي داخلي؛ ما يزيد من تعقيد الموقف الفرنسي.
الضغوط الأوروبية المُتزايدة
كشفت مصادر دبلوماسية تحدثت لصحيفة "بوليتيكو" عن وجود ضغوط كبيرة من المفوضية الأوروبية لإبرام الاتفاقية قبل نهاية العام الجاري.
وتحظى هذه الجهود بدعم قوي من دول أوروبية رئيسية، على رأسها ألمانيا وإسبانيا، وفي هذا السياق، نقلت الصحيفة تصريحات للمستشار الألماني أولاف شولتز، الذي أكد ضرورة إتمام الاتفاق "بسرعة".
وتجدر الإشارة إلى أن المفاوضات مع دول ميركوسور (الأرجنتين والبرازيل وأوروجواي وباراجواي وبوليفيا) تُعد من أهم أولويات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
معارضة ماكرون الشديدة حالت دون إتمام المفاوضات في وقت سابق من هذا العام، مما يضع المفاوضين الأوروبيين تحت ضغط كبير لتحقيق اختراق قبل نهاية 2024.
المخاوف الفرنسية
لطالما كانت فرنسا في طليعة المعارضين لهذه الاتفاقية، وذلك انطلاقًا من مخاوف عميقة تتعلق بتأثيرها السلبي المحتمل على القطاع الزراعي الفرنسي.
وتكشف "بوليتيكو" عن أن باريس تخشى بشكل خاص من أن يؤدي تدفق اللحوم البقرية والمنتجات الزراعية الأخرى من دول أمريكا الجنوبية إلى إضعاف وضع المزارعين الفرنسيين، الذين يشكلون إحدى أقوى الجماعات السياسية في البلاد.
وقال فرانسوا شيميتس، الاقتصادي البارز في مركز الأبحاث الفرنسي CEPII: "من الصعب تصور كيف يمكن للحكومة الفرنسية، مع دعمها السياسي الضعيف في البرلمان الفرنسي، أن تنجو من اتفاقية تجارية مع ميركوسور".
وأضاف شيميتس أن "هذه القضية تشكل خطرًا سياسيًا للقادة الفرنسيين"، مشيرًا إلى الحساسية الشديدة للرأي العام الفرنسي تجاه قضايا التجارة الحرة والقطاع الزراعي.
تراجع النفوذ الفرنسي
تسلط الصحيفة الضوء على تحول دراماتيكي في موازين القوى داخل الاتحاد الأوروبي، إذ إن فرنسا، التي كانت تتمتع في السابق بنفوذ كافٍ لعرقلة الاتفاقية أو حتى فرض حق النقض عليها، تجد نفسها اليوم في موقف ضعيف غير مسبوق.
ويعزو التقرير هذا التراجع جزئيًا إلى الهزائم السياسية المُتتالية التي مُني بها الرئيس ماكرون في الانتخابات الأوروبية والوطنية خلال العام الجاري.
وفي هذا السياق، نقلت الصحيفة عن مسؤول فرنسي رفيع المستوى قوله: "لا أعتقد أن فرنسا تحاول جمع المزيد من الدول معها، هناك الكثير من الضغط من المفوضية؛ الاتفاقية تستمر في المضي قدمًا"، ما يعكس حالة من الإحباط واليأس داخل الأوساط الدبلوماسية الفرنسية، التي اعتادت على لعب دور محوري في صياغة السياسات الأوروبية.
استراتيجية فرنسية جديدة
في ظل هذه الظروف الصعبة، تكشف "بوليتيكو" عن تحول في الاستراتيجية الفرنسية، فبدلًا من محاولة منع الاتفاقية بشكل كامل، يبدو أن المسؤولين الفرنسيين في بروكسل يركزون الآن على محاولة التأثير على المراحل النهائية من المفاوضات.
وفي تصريح للصحيفة، قال دبلوماسي فرنسي: "نحن لسنا ضد التجارة الحرة في حد ذاتها، نحتاج إلى صفقة جيدة مع كل الضمانات".
وأضاف أن فرنسا تطالب بإدراج عناصر قوية تتعلق بالمناخ وإزالة الغابات وشروط المنافسة العادلة في الاتفاقية.
التداعيات السياسية المُحتملة
يُحذر خبراء من أن إبرام الاتفاقية دون موافقة فرنسا قد تكون له تداعيات سياسية خطيرة على الحكومة الفرنسية.
فالرئيس ماكرون، الذي يعاني أصلًا من ضعف شعبيته، قد يواجه غضبًا شديدًا من المزارعين الفرنسيين، وهم من أكثر الفئات تأثيرًا في المشهد السياسي الفرنسي.
ويرى فرانسوا شيميتس، في تحليله للصحيفة، أن "الرأي العام الفرنسي، الذي لا يميل بشكلٍ خاصٍ إلى التجارة الحرة، وشديد الحماية لقطاعه الزراعي، قد يرى في هذه الاتفاقية تهديدًا مباشرًا لمصالحه"، ما يضع ماكرون في موقف صعب للغاية، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة.