أظهر تقرير صادر عن صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، 4 سبتمبر 2024، تعاونًا تجاريًا هنديًا مع روسيا في توريد مواد إلكترونيات حساسة تدعم المجهود الحربي لموسكو، خلال الحرب الروسية الأوكرانية، ورغم أن الوثيقة الصادرة عن وزارة التجارة والصناعة الروسية تعود إلى أكتوبر 2022، إلا أن توقيت الكشف عنها يأتي بعد أيام مع زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، لكييف، 23 أغسطس 2024 - في زيارة هي الأولى لرئيس وزراء هندي إلى أوكرانيا - مُبديًا استعداده لبذل أي جهد للمساهمة في الوصول إلى سلام بأوكرانيا.
ورغم العلاقات المتنامية مع القوى الغربية في ظل مساعي تقليص مخاطر الاعتماد الاقتصادي الحرج على الصين، إلا أن استمرار دفع علاقات التحالف بين الهند وروسيا، خلال الحرب الروسية الأوكرانية، ظل محل جدل في الدوائر الغربية، وفي 8 و9 يوليو 2024، التقى مودي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في زيارة أكدت طبيعة علاقات التحالف بين البلدين وأولويتها بالنسبة لنيودلهي وموسكو، رغم التحديات التي يفرضها التقارب الأمريكي الهندي من جهة والتحالف بين الصين وروسيا من جهة أخرى.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي محددات السياسة الخارجية الهندية تجاه روسيا في ضوء علاقاتها بالغرب وتداعيات ذلك على دور الهند في آسيا والنظام العالمي قيد التشكل.
أبعاد الموقف الهندي
رغم اعتبارها أكبر ديمقراطية في العالم، إلا أن الهند تندرج تاريخيًا خارج العالم الغربي "جغرافيًا وحضاريًا" وترفض التعليقات الغربية بشأن نظامها السياسي، فضلًا عن انتمائها لما يُسمى بـ"الجنوب العالمي"، وتتطلع للعب دور فاعل في محيطها الآسيوي والإفريقي، وترغب في نيل مكانها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي بعالم متعدد الأقطاب، والحفاظ على دورها الرائد في تكتل دول الجنوب في إطار حسابات توازن القوى مع الصين على النحو التالي:
(*) دعم قطاع الطاقة: يظل التحول الطاقي أحد أبرز الملفات الخلافية بين الهند والغرب، في ظل إعلان نيودلهي التزامها بتحقيق الحياد الصفري للكربون بحلول 2070، الذي يتعارض مع المستهدف العالمي لبلوغ الحياد المناخي 2050.
وعلى الرغم من عدم توازن هيكل التجارة بين الهند وروسيا، الذي يميل لصالح الأخيرة، إلا أن موسكو تظل هي الشريك الأبرز على صعيد التعاون في مجال الطاقة، فقد تحولت ثالث أكبر دولة مستهلكة للوقود الأحفوري إلى أكبر مستورد للنفط الروسي الرخيص بحلول يوليو 2024، بقيمة 2.07 مليون برميل يوميًا، لتستحوذ روسيا بذلك على نحو 44% من واردات النفط الهندية، حسب وكالة رويترز.
وترسم مخرجات القمة الأخيرة بين بوتين ومودي في موسكو درجة أكبر من الاعتماد الهندي على موارد الطاقة الروسية، في ظل الاتفاق على صعيد استيراد الفحم وتعزيز التعاون في مجال الطاقة النووية ضمن محطة "كودانكولام" النووية.
(*) الحفاظ على التوازن في آسيا: يضمن تعزيز الانخراط في تعزيز العلاقات مع روسيا مصالح أساسية لنيودلهي على صعيد توازن القوى بآسيا، وتمثل علاقات التحالف المتنامية بين روسيا والصين مبعث قلق للجانب الهندي من تغول نفوذ الصين سياسيًا واقتصاديًا، إذ تتقاطع المشروعات الجيوقتصادية للقطبين الآسيويين في وسط آسيا، فرغم اتفاق طريق التوابل بين الهند وأوروبا والإمارات والسعودية، سبتمبر 2023، أعلنت الهند، 13 مايو الماضي، توقيع اتفاق تطوير وتشغيل ميناء تشابهار الإيراني لمدة 10 سنوات، في إطار تفعيل خطط تدشين ممر شمال - جنوب الرابط بين نيودلهي وموسكو عبر الأراضي الإيراني. ويمثل الممر الهندي الروسي الإيراني أداة فعّالة لقطع الطريق على المحور الصيني الباكستاني ومشروع الحزام والطريق، خاصة في آسيا الوسطى التي اختارها الرئيس شي جين بينج، لإعلان مشروع البنية التحتية العالمية الأضخم في التاريخ انطلاقًا من كازخستان.
وازدادت أهمية توطيد العلاقات الهندية الروسية لضمان الأمن والاستقرار الإقليمي والحفاظ على التوازن القائم في أوراسيا، خاصة في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي خلف عودة حركة طالبان للحكم، ما أثار مخاوف الشركاء الإقليميين من عدم استدامة المظلة الأمنية الأمريكية والحاجة لترتيبات أمنية جديدة تضمن مكافحة التطرف ومجابهة التهديدات الأمنية المحتملة، في ظل تسابق روسيا والصين في التفاهم مع الحكومة الجديدة بأفغانستان، من خلال دورها كعضو فاعل في منظمة شنجهاي للتعاون منذ عام 2015.
ونتيجة لعودة التوتر والنزاعات الحدودية مع الصين منذ عام 2020 وتمدد الوجود العسكري لبكين في المجال الحيوي للنفوذ الهندي ببنجلاديش ونيبال والمالديف، تحتاج نيودلهي للشراكة الأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية لتقويض القوة المتنامية للصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وانخرطت الهند في التحالف الأمني الرباعي، الذي أعادت إدارة بايدن إحياءه، سبتمبر 2021، مع أستراليا واليابان.
(*) تعزيز الاستقلال الدفاعي الهندي: خلال القمة الهندية الروسية الثانية والعشرين، يوليو 2024 بموسكو، اتفق الجانبان على تعزيز التعاون العسكري التقني في البحث والتطوير والإنتاج المشترك للمزيد من نظم ومعدات التسليح المتطورة وقطع الغيار بما يحقق أهداف مبادرة "صنع في الهند"، وتشير بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلم الدولي إلى أن إجمالي واردات الأسلحة للجيش الهندي بلغ 18.3 مليار دولار منذ 2017، منها 8.5 مليار دولار أسلحة روسية رغم اعتماد نيودلهي مؤخرًا على تنويع مصادر التسليح بالاتجاه للأسلحة الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية.
(*) ترسيخ مكانة القطب الهندي في عالم متعدد الأقطاب: مثلت الرؤية الروسية لإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب بالتعاون مع البلدان الصديقة في حزام الحضارات الهندية والصينية والإسلامية، عاملًا رئيسيًا في جذب النخبة القومية الهندية الحاكمة ممثلة في حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة ناريندرا مودي الذي يأمل أن تنال بلاده مكانتها على الصعيد العالمي، وفي إطار مظلة الجنوب العالمي من خلال تعزيز انخراطها في المنظمات الإقليمية الجديدة، التي توفر فرصًا لدعم النمو الاقتصادي للهند ولا تتوقف على المنظمات التي تقودها روسيا مثل تجمع بريكس، وإنما تشمل كذلك التعاون مع الولايات المتحدة على الصعيد الثنائي أو متعدد الأطراف مثل المجموعة الرباعية "I2U2" والمعنية بتطوير التعاون بين البلدان المشاركة في مجالات والطاقة والتكنولوجيا والأمن الغذائي والمائي والفضاء والنقل والصحة.
التوازن الهندي
تتمسك الهند بتحقيق الاستقلال الاستراتيجي وعدم الانجراف إلى سياسة التحالفات، وهو ما يلقى تفهمًا غربيًا وروسيًا كذلك مقابل ما يمكن أن تؤديه نيودلهي من دور على النحو التالي:
(&) الوساطة: أبرز رئيس الوزراء الهندي، خلال زيارته إلى أوكرانيا، أغسطس 2024، أن علاقات بلاده مع روسيا يمكن أن تمثل فرصة لتعزيز جهود إحلال السلام ووقف الحرب الروسية الأوكرانية، ورغم مشاركة الهند في قمة السلام المنعقد بسويسرا في غياب روسيا، إلا أن زيارة مودي لموسكو وكييف على التوالي تبرز رؤية نيودلهي بضرورة التوصل لحل سلمي بمشاركة الطرفين وتعد الهند الوسيط المحتمل الأمثل إذا تهيئت الظروف وتوحدت الإرادة الدولية خلف هدف وقف الصراع.
(&) مواجهة النفوذ العسكري للصين: على الرغم من عدم انخراطها في أنشطة عسكرية تحت المظلة الأمريكية في منطقة المحيطين، إلا أن تزايد التوترات الحدودية مع بكين منذ الاشتباكات بالعصي بين الجيشين الهندي والصيني في وادي جلوان، يونيو 2020، عززت انفتاح نيودلهي على تعزيز التعاون العسكري مع دول المنطقة لمواجهة النفوذ العسكري لبكين، وفي يناير 2022 عقدت الهند اتفاقًا لتسليم صواريخ براهموس الفرط صوتية المضادة للسفن بقيمة 375 مليون دولار إلى الفلبين، في خضم النزاع البحري القائم بين مانيلا وبكين في بحر الصين الجنوبي.
وإجمالًا؛ مع استمرار التقارب الهندي الغربي، لا تزال موسكو حليفًا موثوقًا لنيودلهي في ظل ما تحققه تلك الشراكة الاستراتيجية من مصالح حيوية للهند على الصعيدين الجيوسياسي والاقتصادي، رغم اختلال الميزان التجاري لصالح الصادرات الروسية بما يعادل 93% تقريبًا، وفي المقابل تمثل الحوافز الاقتصادية والعسكرية المحتملة للشراكة الهندية الغربية والتصعيد المحدود في مواجهة صعود الصين وتنامي نفوذها العسكري في مجالها الحيوي أقصى ما يمكن أن تعول عليه القوى الغربية من الهند على المدى المنظور، في ظل الهدف المشترك من تقليص مخاطر الشراكة الاستراتيجية الشاملة الروسية الصينية على مصالح نيودلهي وواشنطن تحديدًا.