على خلفية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، اتخذت الدول الغربية العديد من الإجراءات الرامية إلى فرض عقوبات اقتصادية وتكنولوجية على روسيا، بهدف إجبارها على سحب قواتها من أوكرانيا، وركزت العقوبات الغربية بشكل مباشر على عزل روسيا عن النظام المالي العالمي، والحد من ربحية قطاع الطاقة بها، وتقليص تفوقها العسكري.
وفي مقابل تلك الإجراءات، تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستمرار بلاده في المضي قدمًا نحو أهدافها، وأن روسيا لن تدخل في عزلة ذاتية، بل على العكس ستعمل على توسيع قاعدة الشراكة الواقعية والمتساوية والمتبادلة المنفعة حصريًا مع الدول الصديقة فى أوراسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
سياسات كسر العزلة:
وترجمةً لتلك التوجهات، اتخذت روسيا العديد من الخطوات، لكسر العزلة الغربية والحد من العقوبات المفروضة عليها، ويمكن الإشارة إلى أهم تلك السياسات في التالي:
(*) انعقاد القمة الروسية الإفريقية الثانية: عكس انعقاد القمة الروسية الإفريقية الثانية يومى 27 و28 يوليو 2023 بمدينة سان بطرسبرج بمشاركة نحو 49 دولة إفريقية، وحضور 27 من رؤساء وحكومات الدول الإفريقية، رغبة روسيا في تجديد شراكاتها مع دول القارة الإفريقية بشكل مؤسسي، لكسر العزلة الغربية المفروضة عليها وإظهار ثقلها الاستراتيجي في إفريقيا التي أضحت ساحة للتنافس الدولي، تسعى القوى الكبرى لاستقطاب دولها فى لعبة التوازنات الدولية الرامية إلى إيجاد توازن دولي جديد يقوم على تشكيل نظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب.
ولذلك تضمن البيان الختامي معارضة استخدام سياسة العقوبات الأحادية غير المشروطة، والعقوبات الثانوية، وممارسات تجميد أرصدة الذهب السيادي، واحتياطات النقد الأجنبي، كما أكد البيان رفض أساليب "الابتزاز السياسي" الذي يُمارس ضد قيادات الدول الثالثة، لإجبارها على الانضمام لسياسة العقوبات، أو للتأثير على المسار السياسي والاقتصادي لتلك الدول.
(*) الشراكة الاستراتيجية مع الصين: فى فبراير 2023، أعلنت كل من الصين وروسيا عن شراكة استراتيجية بلا حدود، وهي الشراكة التي تسعى كل من بكين وموسكو لتعزيز علاقاتهما الاقتصادية والعسكرية بما يحقق أهدافهما الاستراتيجية في المجال الخارجي، إذ تسعى روسيا إلى تعزيز تعاونها الاستراتيجى مع الصين لمواجهة التهديدات الغربية الرامية إلى توسيع حلف الناتو على تخومها، بما جعلها تخوض حربًا ضد أوكرانيا لوقف مثل هذا التمدد.
في حين تعتقد بكين أن المنافع الاقتصادية التي يمكن أن تحققها العلاقات بينهما سيكون لها مردودها نحو تعزيز إمداد الصين بالطاقة التي تشكل حجر الزاوية في النمو الاقتصادي العالمي للصين. وقد شكل ذلك الهدف أحد أبعاد زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى روسيا في مارس 2023، إذ أبدت روسيا استعدادها لزيادة إمدادات النفط للصين بشكل غير محدود بجانب توسيع إمدادات الغاز الطبيعي، لذلك زادت واردات الصين من النفط الروسي بنسبة 8% العام 2022، وزادت واردات الغاز الروسي بنسبة 50%، وهو ما يفسر بشكل جزئي تحسن أداء الاقتصاد الروسي رغم العقوبات الغربية.
(*) التعاون مع كوريا الشمالية: مثلت زيارة وفد روسي بقيادة وزير الدفاع سيرجي شويجو ووفد صيني برئاسة عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي "لي هونج تشونج" 25 يوليو 2023 إلى بيونج يانج عاصمة كوريا الشمالية بالتزامن مع احتفالها بمرور 70 عامًا على إبرام الهدنة في شبه الجزيرة الكورية أو ما يعرف بـ"يوم النصر". ويعد التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية والصين تجسيدًا للتحالف المناوىء للهيمنة الأمريكية والرامي إلى إرساء تعددية قطبية تتيح لتلك القوى وتسمح لها بأدوار مؤثرة عالميًا.
(*) السعي إلى توسيع عضوية بريكس: يمثل تجمع بريكس تكتلًا اقتصاديًا له ثقله على المستوى الدولي، وتعد روسيا والصين من الدول الفاعلة داخل التجمع، باعتبارهما من الدول المؤسسة في عام 2009، وقد كان التكتل أحد ركائز تأسيس نظام مالي عالمي متعدد القطبية، لا سيما وأنه أضحى يمتلك أسرع نمو اقتصادي عالمي، حيث تسهم دول بريكس بنحو 22% من إجمالي الناتج العالمي، وتمتد لقرابة 40% من مساحة الأراضي، إلى جانب تمثيلها لأكثر من 41% من سكان العالم. وقد أعلنت الصين في أكتوبر 2022، دعمها لتوسيع عضوية بريكس، كما أعلنت وزارة الخارجية الروسية في سبتمبر 2022 أن هناك 15 دولة مهتمة بالانضمام إلى بريكس، من بينها الجزائر ومصر.
(*) استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري: تسعى روسيا إلى الحد من الضغوط الاقتصادية عليها وتقليل تأثير العقوبات الغربية، وذلك من خلال تعزيز تبادلها التجاري مع الاقتصادات الأخرى من خلال استخدام العملات المحلية، واتجهت لتعزيز تبادلها التجاري مع الصين باعتبارها شريكًا استراتيجيًا لها باستخدام الروبل واليوان في معاملاتهما الاقتصادية بدلاً من استخدام الدولار أو اليورو، وتشير التوقعات الاقتصادية إلى إمكانية زيادة التبادل التجارى بين الجانبين ليصل إلى ما يقرب من 200 مليار دولار نهاية عام 2023، لذلك أصبحت الصين وجهة مربحة لروسيا، بعد تراجع الصادرات الروسية لأوروبا بسبب العقوبات الغربية.
وقد بلغت الصادرات الروسية إلى الصين 24.07 مليار دولار، بزيادة 47.1% عن عام 2022، كما نمت واردات روسيا من الصين إلى ما يقرب من 39.77 مليار دولار بزيادة 32.6%. كما أعلنت دول مثل أرمينيا وإيران وتركيا عن نيتها استخدام آلية للسماح باستخدام الروبل الروسي في التبادل التجاري مع موسكو، بهدف تعزيز علاقاتها التجارية، والالتفاف على العقوبات الغربية ضد روسيا.
تحديات ماثلة
على الرغم من الجهود التي تبذلها روسيا للتخفيف من العقوبات الاقتصادية الغربية والحد من عزلتها الدولية، إلا إن تلك الإجراءات تواجه تحديين رئيسيين؛ الأول يرتبط بمدى قدرة موسكو على ترجمة مبدأ التعددية القطبية، وهو المبدأ الذي يشكل المدخل الرئيسى لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الاقتصادات الناشئة فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي اقتصادات تحتاج إلى دعم اقتصادى لمواجهة مشكلاتها، إذ تواجه الدول الإفريقية على سبيل المثال مشكلات جوهرية تؤثر على جهود التنمية بها مثل أزمة الديون، وانتشار الإرهاب، وانعدام الأمن الغذائي، فضلاً عن مشكلات التغير المناخي التي أدت إلى النزوح والهجرة إلى مناطق بديلة تحقق الحد الأدني من توفير الاحتياجات الأساسية داخل القارة السمراء.
وإذا كانت روسيا لا تستحوذ إلا على 1% من حجم التجارة الدولية لإفريقيا مع العالم الخارجي، فإن تعزيز وجودها في إفريقيا لإرساء مبدأ التعددية القطبية -الذي ترغب عدة دول إفريقية فى إرسائه- سيظل عديم الفاعلية من الناحية النظرية، وأن الأقرب هو تكالب القوى الدولية على ثروات القارة الإفريقية، بعد أن وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنها مستقبل العالم.
أما التحدي الثانى وربما الأهم، فإنه يرتبط بمدى قدرة روسيا على تحدى المنظومة الغربية التى تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وتساندها الدول الأوروبية في سعيها نحو عزل روسيا دوليًا، فلا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تمثل الاقتصاد الأول على المستوى الدولي، كما أن لديها أكبر موازنة عسكرية تجعلها قادرة على الوجود في أقاليم العالم الاستراتيجية كافة، فضلاً عن سعيها لتعزيز حلف الناتو لضمان أمن القارة الأوروبية ومواجهة التهديدات المتنامية، بالإضافة إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية أسهمت فى توحيد الدول الغربية ضد أهداف روسيا فى أوكرانيا، وذهب بعض الخبراء إلى اعتبار الحرب استدراجًا لروسيا في المستنقع الأوكراني لاستنزاف قدرات الدب الروسي، واستعادة التماسك الغربي بعد أن أسهم التعاون الاقتصادي خاصة فى مجال الطاقة في خلق شبكة من المصالح المتبادلة بين روسيا وأوروبا، وهو ما تلاشى بعد تلك الحرب، لتسعى الدول الغربية لتنويع بدائل إمدادها بالطاقة.
مجمل القول، إن روسيا سعت لكسر عزلتها الدولية والحد من العقوبات الغربية المفروضة عليها بعد الأزمة الروسية الأوكرانية، غير أن الانتقال من نظام الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب وهو الهدف الأسمى للرئيس بوتين، سيتوقف على مدى قدرة روسيا على تفعيل شراكتها الاستراتيجية مع الصين التي لا تزال حذرة فى تعاطيها مع المشكلات الدولية ومع الأزمة الروسية تحديدًا، إذ لم تعلن عن دعمها اقتصاديًا أو عسكريًا لموسكو بل طرحت خطة للسلام لتسوية الصراع بين موسكو وكييف. وربما تشكل الرسائل المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة فى الاتجاه نحو الحوار والحديث عن صعوبة فك الارتباط بين الاقتصادين الأمريكي والصيني حتى لا يتأثر الاقتصاد العالمي سلبيًا، مدخلًا مناسبًا للحد من الصراعات الدولية، وربما تسويتها في الأمد المنظور.