تتخذ قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مكانة مركزية في الجهود العالمية الرامية إلى وقف النزاعات وحماية الأرواح، في عالم يضج بالصراعات المسلحة وتزايد التحديات السياسية والاقتصادية.
وتظل بعثات حفظ السلام وسيلة أساسية في تحقيق الاستقرار في المناطق المضطربة، ومع ذلك، فإن النجاحات التي تحققها هذه القوات لا تخلو من التحديات الكبيرة التي تواجهها، سواء في نقص الموارد أو الدعم السياسي المتفرق، وفق تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية يعرض دور قوات حفظ السلام الحيوي والعقبات التي تعترض طريقها لتحقيق مهامها.
وغالبًا ما يتعرّض عمل بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة للانتقاد، لكن قلّما يتخيل المنتقدون كيف سيكون حال العالم في غياب هذه البعثات، ففي الواقع، أثبتت دراسات متعددة أن بعثات حفظ السلام تُعتبر واحدة من أكثر الأدوات فعالية التي يمتلكها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للحد من توسع الحرب، ووقف الفظائع، وزيادة احتمالات استمرار اتفاقيات السلام.
وقد خلصت دراسة شاملة أجراها علماء السياسة باربرا ف والتر، وليز مورجي هوارد، وف بيج فورتنا في عام 2021 إلى أن "حفظ السلام لا يعمل فقط على وقف النزاعات لكنه يعمل بشكل أفضل من أي شيء آخر يعرفه الخبراء"، وأكدت الدراسة أن المناطق التي توجد فيها بعثات حفظ السلام تشهد صراعات أقل ووفيات أقل مقارنة بتلك التي تفتقر إليها.
التحديات الراهنة
في الوقت الحالي، تُنشر الأمم المتحدة 11 بعثة لحفظ السلام في مناطق متفرقة حول العالم، وهي تقوم بمساهمات استثنائية في احتواء العنف وسط تصاعد الصراعات في أماكن عديدة، من مرتفعات الجولان إلى جمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، وتعمل قوات حفظ السلام على مراقبة اتفاقيات وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، واحتواء أعمال العنف.
ومع ذلك، تتزايد التحديات التي تواجه هذه البعثات بشكل غير مسبوق، إذ باتت الصراعات تشمل جماعات مسلحة تعمل عبر الحدود الوطنية، ومسلحة بتقنيات رخيصة مثل العبوات الناسفة، والتي تنتشر بشكل واسع على الإنترنت باستخدام خطاب الكراهية والمعلومات المضللة.
تأثير على نجاح البعثات
تُعتبر الإرادة السياسية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة من العوامل الحاسمة لنجاح قوات حفظ السلام في تنفيذ مهامها، ومع ذلك، أصبح المجتمع الدولي أكثر انقسامًا وتشتيتًا بين أزمات متعددة.
هذا الانقسام يؤثر بشكل كبير على قدرة الأمم المتحدة على تحقيق أهداف السلام طويلة الأجل، فبدون دعم سياسي قوي من الدول الأعضاء، تقتصر البعثات غالبًا على إدارة الأضرار ومنع الصراعات من الخروج عن السيطرة بدلًا من العمل على حلها.
التكيف مع التهديدات المتطورة
ولكي تتمكن بعثات حفظ السلام من الانتقال من مجرد إدارة النزاعات إلى حلها، فإنها بحاجة إلى التكيف بسرعة مع التهديدات المتطورة، مثل الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وتغير المناخ، والمعلومات المضللة، والتقنيات الرقمية الحديثة مثل الطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي، كما يجب على الدول الأعضاء تقديم دعم أقوى وأكثر توحيدًا لعمليات السلام في الدول التي تخدمها هذه البعثات.
ومنذ إطلاق أول بعثة لحفظ السلام في عام 1948 للحفاظ على وقف إطلاق النار بعد الحرب العربية الإسرائيلية، أثبتت الأمم المتحدة قدرتها على تحقيق نجاحات بارزة في بعض الحالات.
ففي كمبوديا عام 1992، ساهمت البعثة في إنهاء حرب أهلية مدمرة، وفي كوت ديفوار بين 2004 و2017، دعّمت بعثات حفظ السلام إنهاء الحرب الأهلية والعودة إلى النظام الدستوري، هذه النجاحات لم تكن ممكنة لولا القيادة القوية التي قدمها مجلس الأمن، ودور المجتمع الدولي في دعم الحلول السياسية.
قيود الميزانية
ورغم هذه النجاحات، تعاني بعثات حفظ السلام من قيود كبيرة في الميزانية، فالميزانية المعتمدة لعمليات حفظ السلام، التي تبلغ 5.59 مليار دولار، لا تشكل سوى نسبة ضئيلة مقارنة بالإنفاق العسكري العالمي.
فعلى سبيل المثال، فإن ميزانية شرطة مدينة نيويورك تفوق ميزانية عمليات حفظ السلام بشكل كبير، على الرغم من أن قوات حفظ السلام تضم نحو 20 ألف فرد إضافي، هذا النقص في التمويل يحد من قدرة القوات على تنفيذ مهامها بكفاءة.
دروس مستفادة
تعرضت هايتي في الفترة الأخيرة لانهيار أمني متعدد الأبعاد بعد انسحاب قوات حفظ السلام في عام 2017، ما يُظهر كيف أن سحب القوات قبل إرساء السلام الدائم قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.
فقوات حفظ السلام في هايتي ورغم أوجه القصور التي عانت منها، نجحت في تأمين السلام النسبي للهايتيين وإعادة بناء البنية التحتية بعد الزلزال الكارثي عام 2010. إلا أن انسحابها أعاد البلاد إلى حالة من الفوضى.
التعاون الدولي لتعزيز السلام
ولتحقيق السلام الدائم، لا يمكن للبعثات أن تعمل بمفردها، فتحتاج إلى تطوير شراكات مع المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، فضلًا عن العمل مع وكالات الأمم المتحدة الأخرى لمعالجة المشكلات المعقدة مثل الاستغلال غير القانوني للموارد الطبيعية.
وعلى سبيل المثال، فإن بعثة حفظ السلام في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان قدمت مثالًا جيدًا على كيفية نجاح التعاون في تحقيق اتفاقات محلية بين المزارعين والرعاة لتجنب الصراع على الموارد.
على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه بعثات حفظ السلام، فإنها لا تزال أحد أفضل الأدوات لتحقيق السلام في عالم مليء بالصراعات، ووفق "فورين أفيرز" فيجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تجديد التزامها بدعم هذه البعثات من خلال توفير التمويل الكافي والدعم السياسي اللازم، فإن الحفاظ على وقف إطلاق النار وحماية المدنيين هو هدف رئيسي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تكاتف الجهود الدولية المستمرة.