يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ عملية طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي، إلى توسيع جبهات الحرب في الإقليم، أملًا في البحث عن أي نجاح يُرمّمُ به علاقاته في الداخل، ويعزز من صورة إسرائيل خارجيًا بعد أن تمكنت فصائل المقاومة من إسقاط نظريات الردع الإسرائيلي باستهداف العمق الإسرائيلي بضربات، وأسر عدد من المدنيين والعسكريين الإسرائيليين، وكان الرد الإسرائيلي غاشمًا بشن حرب على غزة وما خلفته من تدمير للقطاع، وتشريد مواطنيه، وهو السلوك الذي أدانته معظم دول العالم، واعتبرت دولة جنوب إفريقيا في الدعوى التي أقامتها أمام محكمة العدل الدولية أن ما ترتكبه إسرائيل في غزة "هو من قبيل جرائم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني الأعزل"، وجاءت مظاهرات الطلبة في جامعات العالم المختلفة، ومنها الدول الغربية لتدين السلوك الإسرائيلي الإجرامي بحق الشعب الفلسطيني، وتطالب الرئيس الأمريكي جو بايدن بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع.
وأمام محاصرة نتنياهو داخليًا وخارجيًا، بدا له أن الخروج من هذا المأزق لتوحيد الداخل الاسرائيلي، يرتبط بالتوجه نحو تصعيد الصراع مع إيران واستدراجها لحرب شاملة، باعتبار أن العديد من الدول الغربية لا تزال تعتبرها دولة مارقة تتعاون مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا، فاتجه نحو استهداف أذرع إيران في دول الإقليم وتصفية المنتمين لتلك الأذرع، ومنها تنفيذ عملية لاغتيال فؤاد شكر القيادي العسكري بحزب الله اللبناني بالضاحية الجنوبية لبيروت في 30 يوليو 2024، واستهداف القنصلية الإيرانية في سوريا في الأول من أبريل 2024، ما أسفر عن مقتل 16 شخصًا من بينهم قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني العميد رضا زاهدي، وكذلك تنفيذ ضربة جوية ضد ميناء الحديدة باليمن والذي تسيطر عليه جماعة الحوثي، وكان الاستدراج الأكبر هو اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في العاصمة الإيرانية طهران في 31 يوليو 2024، وذلك عقب مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، وهو الأمر الذي جعل إيران أمام خيارات صعبة ربما تؤدى بها إلى الوقوع في المصيدة.
الاستدراج المزدوج
في ظل المأزق الذي يعيشه نتنياهو، بدت مؤشرات الاستدراج المزدوج تتزايد على رقعة تفاعلات الإقليم، منها ما يتعلق باستدراجه لإيران نحو حرب شاملة باستهداف سيادتها وتنفيذ عمليات داخل أراضيها، وكذلك استدراج الولايات المتحدة نحو تلك الحرب، رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يرفض تصعيد الصراع وتحويله لحرب شاملة، لذلك يمكن الإشارة إلى تزايد مؤشرات الاستدراج الإسرائيلي على النحو التالي:
(*) تنفيذ سلسلة من الاغتيالات: مثّلت سلسلة الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل ضد عدد من المنتمين للأذرع الإيرانية في دول الإقليم نهجًا ثابتًا لا يتغير، يهدف إلى جر إيران لمواجهات أشمل مع إسرائيل. فقد شكل استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية بسوريا في الأول من أبريل 2024 وما نجم عن ذلك من مقتل 16 شخصًا، من بينهم العميد رضا زاهدي قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. كما اغتالت إسرائيل فؤاد شكر القيادي العسكري بالضاحية الجنوبية لبيروت في 30 يوليو 2024، والذي اعتبره المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي عقب العملية بأنه القيادي العسكري الأبرز في التنظيم، ومسؤول الشؤون الاستراتيجية فيه، وكان يعد اليد اليمنى لأمين عام حزب الله حسن نصر الله ومستشاره لشؤون التخطيط والحرب، ثم كانت العملية الأكبر باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في 31 يوليو 2024 بالعاصمة الإيرانية طهران، وعقب مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان. وهو ما أدى لاستنفار النخبة الإيرانية الحاكمة وإصرارها على الرد الانتقامي ضد إسرائيل، إذ توعد المرشد الإيراني علي خامنئي بتوجيه عقاب قاسٍ ضد إسرائيل بعد اغتيال هنية، قائلًا: "نعتقد أنه من واجبنا الثأر للدماء التي أُريقت على تراب الجمهورية الإسلامية". كما أشار رئيس هيئة الأركان الإيرانية اللواء محمد باقري، إلى أن الردّ على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حتمي، وأن الكيان الصهيوني سيندم، وأن بلاده تدرس كيفية ردّها ومحور المقاومة، مؤكدًا أنه يجب اتخاذ خطوات مختلفة. وتماشيًا مع تلك التصريحات الحادة أكد رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، في كلمة خلال مراسم جنازة هنية، أن "لإيران الحق في الرد في الوقت والزمان المناسبين على من قتلوا هنية ".
(*) استهداف تمركزات الأذرع الإيرانية: شكل استهداف إسرائيل لمناطق تمركزات الأذرع الإيرانية توجهًا نحو استنزاف قدرات تلك الأذرع والتأثير على مساندتها العسكرية لإيران، وصولًا لاستدراج إيران نفسها للحرب الشاملة، إذ استهدف سلاح الجو الإسرائيلي ميناء الحديدة باليمن في 20 يوليو 2024، والذي تسيطر عليه جماعة الحوثي. وجاء في بيان جيش الاحتلال الاسرائيلي أن طائرات حربية من طراز إف-15 قصفت أهدافًا للحوثيين في منطقة الحديدة، ردًا على مئات الهجمات ضد إسرائيل بلغت 200 تهديد جوي مختلف نحو إسرائيل بتمويل وتوجيه إيراني.
(*) التصعيد على الجبهة اللبنانية: اتجهت إسرائيل للتصعيد على الجبهة اللبنانية بعد عملية مجدل شمس التي اتهمت فيها حزب الله بتنفيذ الهجوم في حين نفى الحزب مسؤوليته عن الهجوم، وفوّض مجلس الوزراء الإسرائيلي الأمني المصغر كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت بتحديد نوع وتوقيت الرد على هجوم حزب الله اللبناني بمجدل شمس، وأعلن نتنياهو أن إسرائيل في حالة استنفار عالية جدًا، قائلًا: "مستعدون لأي احتمال، وسنقف متحدين في وجه أي تهديد"، وتوعد وزير الدفاع يوآف جالانت بـ"ضرب حزب الله في كل مكان نحتاج لضربه فيه" حسب وصفه، وطالب وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير بشن حرب على حزب الله فورًا.
(*) تزايد الحشد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط: أعلنت واشنطن أنها ستعزز وجودها العسكري في الشرق الأوسط عبر نشر مزيد من السفن الحربية والمقاتلات. وهو الأمر الذي يعزز من فرضية الاتجاه الإسرائيلي نحو استدراج الولايات المتحدة الأمريكية، لمساندتها في حرب محتملة ضد إيران لا تستطيع تنفيذها بمفردها. وأعلن البنتاجون في 10 أغسطس 2024 أن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أمر حاملة الطائرات "يو إس إس إبراهام لينكولن" بتسريع وصولها إلى الشرق الأوسط، وذلك لمواجهة خطر هجوم واسع النطاق من جانب حزب الله اللبناني المدعوم من إيران أو من إيران نفسها، وفقًا لبيان المتحدث باسم البنتاجون باتريك رايدر، كما أمر أيضًا أوستن بإرسال غواصة الصواريخ "يو إس إس جورجيا".
دعوات للتهدئة
على الرغم من تزايد الاحتمالات لاستدراج إيران نحو حرب شاملة سيكون لها تداعياتها السلبية على استقرار الإقليم، إلا أن ثمة دعوات تطالب بالتهدئة بين الجانبين وضبط النفس تجنبًا لتدهور الأوضاع. لذلك يمكن الإشارة إلى أبرز تلك الدعوات
(*) البيان الثلاثي الأوروبي: أصدر ثلاثة قادة أوروبيون (الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والمستشار الألماني أولاف شولتس) في 11 أغسطس 2024 بيانًا لتفادي تدهور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والذي جاء من مفرداته "أننا نشعر بقلق عميق إزاء تصاعد التوترات في المنطقة، ونحن متحدون في التزامنا بالتهدئة والاستقرار الإقليمي.. وفى هذا السياق وعلى وجه الخصوص ندعو إيران وحلفائها إلى الامتناع عن شنّ هجمات من شأنها أن تزيد من تفاقم التوترات الإقليمية، وتقوض إمكانية تحقيق وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، وستحملون المسؤولية عن الأعمال التي من شأنها أن تعرض هذه الفرصة للسلام والاستقرار للخطر، ولن يستفيد أي بلد أو دولة من المزيد من التصعيد في الشرق الأوسط".
(*) رفض أمريكي للتصعيد: على الرغم من اتجاه الولايات المتحدة، لتعزيز وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، لمواجهة أية تهديدات محتملة تواجه أمن إسرائيل، إلا أن الرئيس الأمريكي جو بايدن وأركان إدارته يرفضون توسيع الصراع وتحوله إلى حرب شاملة تهدد الأمن والاستقرار في الإقليم والعالم. وهو الموقف الذي يتبناه كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري معًا، رفضًا للانخراط في المواجهة مع إيران وتفضيل سياسة الاحتواء.
مجمل القول، يعتبر نتنياهو أن الأشهر الثلاثة المتبقية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر 2024 هي الفرصة الأخيرة أمام إسرائيل، لاستدراج أمريكا، وتوريطها في حرب إقليمية ضد إيران؛ لأن إسرائيل لا تستطيع أن تحارب إيران منفردة. وهو الأمر الذي سيتوقف على الردود الإيرانية المحتملة التي ستقتصر وفق العديد من التحليلات على عملية نوعية مماثلة لتلك التي نفذت على أراضيها باغتيال إسماعيل هنية، في ظل الانقسام الإيراني الداخلي، ورفض الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان للتصعيد عكس ما يتبناه الحرس الثوري الإيراني، لا سيما مع تصاعد التهديدات الأمريكية والأوروبية بتحميل إيران مسؤولية التصعيد العسكري في الشرق الأوسط وتعريض السلام والاستقرار للخطر.