جاء التصعيد الإسرائيلي الإيراني بعد سلسلة من العمليات المتبادلة منذ عملية طوفان الأقصي، التي شنتها حركات المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023، وما تلاها من الرد الإسرائيلي الانتقامي بالحرب الغاشمة على غزة، التي أدت لسقوط ما يزيد على 100 ألف فلسطيني ما بين شهيد وجريح، بما دفع حزب الله اللبناني نحو "الإسناد" للتخفيف من تداعيات الهجوم الإسرائيلي على غزة، من خلال استهداف الشمال الإسرائيلي برشقات من الصواريخ، التي دفعت سكان المدن المحاذية للحدود الإسرائيلية اللبنانية للهجرة بعيدًا عن مناطق العمليات العسكرية. وفي ظل إخفاق نتنياهو في تحقيق أي من أهداف الحرب التي شنها على قطاع غزة سواء ما يتعلق بالقضاء على حركة حماس أو استعادة الأسرى الإسرائيليين لدى الحركة، فقد اتجه نحو التصعيد على الجبهة اللبنانية، لإنقاذ حكومته من الانهيار حيث وجد في عملية مجدل شمس فرصته، لاستهداف الضاحية الجنوبية لبيروت بعملية وصفها المتحدث باسم جيش الاحتلال بأنها أدت إلى تصفية القيادى العسكري بحزب الله اللبناني فؤاد شكر، 30 يوليو 2024، في حين التزمت إسرائيل الصمت إزاء عملية اغتيال إسماعيل هنية، برغم تلميحات نتنياهو بقيام إسرائيل بتلك العملية، بعد أن صرّح بأن إسرائيل وجهت ضربات مؤلمة لأعدائها.
وعلى الرغم من تزايد حدة التصريحات الرسمية المتبادلة بين إسرائيل وإيران منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، بالعاصمة الإيرانية طهران، 31 يوليو 2024، عقب مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، إلا أن هناك كوابح إقليمية ودولية تطالب الدولتين بضبط النفس، ومنع تفاقم الأحداث وتطورها حتى لا تتحول إلى حرب إقليمية شاملة تهدد الأمن والاستقرار بإقليم الشرق الأوسط.
جبهات مشتعلة
عكست سلسة الاغتيالات المتتالية في صفوف حزب الله اللبناني وحركة "حماس"، فضلًا عن الهجوم الإسرائيلي على "الحوثيين" في منطقة الحديدة باليمن، أبعاد التصعيد الإسرائيلي الإيراني على العديد من الجبهات، التي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
(*) جبهة إسرائيل: رفعت إسرائيل حالة التأهب تحسبًا لرد إيران وحركة حماس و"حزب الله" اللبناني على اغتيال فؤاد شكر في العاصمة اللبنانية بيروت، 30 يوليو 2024، وكذلك اغتيال إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران، بعد يوم واحد، إذ أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن إسرائيل في حالة استنفار عالية جدًا، ومستعدون لأي احتمال، وسنقف متحدين في وجه أي تهديد".
وأشار المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، 1 أغسطس 2024، إلى أن إسرائيل مستعدة لأي احتمال وسترد بقوة على أي هجوم، كان مجلس الوزراء الأمني المصغر فوض كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف جالانت، بتحديد نوع وتوقيت الرد على هجوم "حزب الله" اللبناني بمجدل شمس، كما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي عقب عودته من زيارة للولايات المتحدة الأمريكية بزيارة قرية مجدل شمس بالجولان السوري المحتل، 29 يوليو 2024، وهي الزيارة التي لاقت رفضًا من سكان البلدة، ورفضًا من أهالي الضحايا لاستقبال نتنياهو، الذي توعد من موقع الضربة بأن الرد سيكون قاسيًا، وأن إسرائيل لن تدع هذا الأمر يمر.
(*) جبهة إيران: تزامنت عملية اغتيال إسماعيل هنية مع مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، الأمر الذي وضع مؤسسات النظام الإيراني بجناحيها المعتدل والمحافظ في معضلة حقيقية، وفي حال عدم الرد على عمليات إسرائيل ستفقد إيران الردع الذي حاولت صياغته في علاقاتها الصراعية مع إسرائيل، وفي حال قيامها بالرد المحسوب فإن ذلك ربما يؤدي إلى اندلاع حرب شاملة لا تستطيع إيران أو المنطقة تحمل تبعاتها، لذلك توعد المرشد الإيراني على خامنئي بتوجيه عقاب قاس ضد إسرائيل بعد اغتيال "هنية" قائلًا: "نعتقد أنه من واجبنا الثأر للدماء التي أريقت على تراب الجمهورية الإسلامية ".
وقال اللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان الإيرانية، إن الرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حتمي وإن الكيان الصهيوني سيندم، وبلاده تدرس كيفية ردها و"محور المقاومة"، مؤكدًا أنه يجب اتخاذ خطوات مختلفة، وتماشيًا مع تلك التصريحات الحادة أكد رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، في كلمة خلال مراسم تشييع هنية أن "لإيران الحق في الرد في الوقت والزمان المناسبين على من قتلوا هنية".
(*) جبهة لبنان: إذا كان لبنان يسعى على المستوى الرسمي لتجنب التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، إذ تلقى رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي اتصالًا هاتفيًا من وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، 29 يوليو 2024، الذي عبر عن قلقه إزاء تصاعد التوتر بين لبنان وإسرائيل، ورحب ببيان الحكومة الذي حث على وقف جميع أشكال العنف، واتفق لامي وميقاتي على أن أي توسع إضافي للصراع لن يكون في مصلحة أحد، إلا أن "حزب الله" يتبنى الاتجاه نحو التصعيد مع إسرائيل باستهداف الشمال الإسرائيلي بمجموعة من رشقات الصواريخ، في إطار الحفاظ على "قواعد الاشتباك" بين الحزب وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وعقب سلسلة الاغتيالات التي تقف خلفها إسرائيل، فقد تزايدت نبرة التهديد من قبل حسن نصر الله، أمين عام الحزب، الذي توعد برد حقيقي ومدروس جدًا على اغتيال فؤاد شكر، مشيرًا إلى أن الرد سيكون مختلفًا عن سياق العمليات العسكرية إسنادًا لقطاع غزة، ومؤكدًا أنه "لا استسلام في كل جبهات المقاومة، وعلى من يريد تجنيب المنطقة ما هو أسوأ وأكبر، إلزام إسرائيل بوقف العدوان على غزة".
كوابح متعددة
برغم تزايد حدة التصريحات الرسمية للتصعيد ما بين إيران وإسرائيل، إلا أن هناك رفضًا دوليًا وإقليميًا للتصعيد المتبادل، وبما يعزز من كوابح الصراع بين الجانبين للأسباب التالية:
(&) الردع الأمريكي: برغم تأييدها لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" ودعمها عسكريًا، تتبنى الإدارة الأمريكية توجهًا رئيسيًا مفاده منع تمدد الصراع بين الأطراف المتحاربة في إقليم الشرق الأوسط والحيلولة دون تحوله إلى حرب شاملة لا يمكن التنبؤ بمساراتها المستقبلية على الأمن العالمي، وللمفارقة فإنه برغم الانحياز الأمريكي لدعم الحليف الإسرائيلي، فإن الردع الأمريكي الذي يجسده الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل يشكل كابحًا رئيسيًا لمنع خروج الصراع بين إيران وإسرائيل عن السيطرة لتظل الردود المتبادلة بينهما محسوبة وتحت السيطرة، التي عكسها محدودية الخسائر التي منيت بها إسرائيل بعد الهجوم الإيراني بالمسيرات والصواريخ، 13 أبريل 2024، ردًا على استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا، وعبر السلوك الأمريكي عن ذلك الردع سواء على مستوى التصريحات، حينما أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن، في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطلع أغسطس الجاري، على التزام بلاده بأمن إسرائيل في مواجهة التهديدات الإيرانية، أو على مستوى الدعم العملياتي العسكري بتأكيد بيان البيت الأبيض أن الجهود الأمريكية لحماية أمن إسرائيل تتضمن عمليات نشر جديدة لأسلحة دفاعية أمريكية، وتدرك الولايات المتحدة الأمريكية أن تحول التصعيد ما بين إسرائيل وإيران إلى حرب شاملة سيجعلها طرفًا محتملًا في الصراع بتعقيداته في منطقة الشرق الأوسط في حال تفوق محور إيران بأذرعه المتنوعة وتهديد الوجود الإسرائيلي.
(&) حماية المصالح الغربية: كشفت ردود الفعل الغربية إزاء التصعيد المتبادل بين إسرائيل وإيران للمطالبة بضبط النفس ورفض التصعيد حتى لا تتحول لحرب شاملة، إدراكًا لخطورة التصعيد على المصالح الغربية، لا سيما وأن اقتصاداتها لم تتعاف بعد من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت بالعديد من الدول الغربية لتوقيع اتفاقات ممتدة مع الدول المصدرة للنفط والغاز في المنطقة، لتعويض نقص إمدادات الطاقة التي تعد عصب التنمية في تلك الدول، لذلك دعا الرئيس الفرنسي خلال اتصال هاتفي بالملك عبد الله الثاني بن الحسين، 4 أغسطس 2024، إلى تجنب تصعيد عسكري في الشرق الأوسط بأي ثمن في ظل تصاعد التوتر بين إسرائيل من جهة وإيران و"حزب الله" من جهة أخرى، كما عبر ماكرون عن التزام فرنسا بالمساهمة في نزع فتيل التصعيد على الصعيد الدبلوماسي، خصوصًا على الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل، الذي حددته الأمم المتحدة بعد انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان عام 2000.
ودعت مجموعة السبع إلى تخفيض التصعيد الحالي في الشرق الأوسط، إذ عقد وزراء خارجية المجموعة، 4 أغسطس 2024، مؤتمرًا عبر الفيديو كونفراس وعبروا عن قلقهم الشديد إزاء تطورات الأحداث في الآونة الأخيرة، التي قد تؤدي إلى اتساع نطاق الأزمة بالمنطقة، مطالبين الأطراف المعنية بالاحجام عن أي تصرف من شأنه أن يعوق مسار الحوار والاعتدال ويشجع على التصعيد.
(&) الرفض العربي للتصعيد: يتبلور الموقف العربي في رفض التصعيد المتبادل بين إسرائيل وإيران، إذ أكد وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي، خلال اتصال هاتفي بوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، 5 أغسطس 2024، ضرورة ممارسة جميع الأطراف لضبط النفس، وتجنيب المنطقة مخاطر عدم الاستقرار وتهديد مصالح شعوبها". وأشار البيان الذي نشرته صفحة المتحدث باسم الخارجية المصرية، إلى أن عبدالعاطي أجرى اتصالًا ببلينكن وأحاطه بالاتصالات التي قام بها مع وزراء خارجية عدد من الدول الأوروبية بهدف احتواء التصعيد الجاري في المنطقة، على خلفية سياسة الاغتيالات الإسرائيلية وما خلفته من حالة احتقان وردود أفعال قد تؤدى إلى خروج الأوضاع الأمنية عن السيطرة، وتهدد بتوسيع رقعة الصراع بشكل غير مسبوق.
وشدد وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية عبد الله بوحبيب، 5 أغسطس 2024، على ضرورة أن تكثف الأمم المتحدة جهودها لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، وتجنيب المنطقة الانزلاق في دوامة ردود انتقامية قد يؤدي خروجها عن السيطرة إلى اندلاع حرب إقليمية شاملة.
(&) القدرات العسكرية لحزب الله: يشكل امتلاك "حزب الله" اللبناني لقدرات عسكرية متنوعة جعلته أقرب لجيش نظامي أحد الكوابح لمنع تحول الصراع الإيراني الإسرائيلي إلى حرب شاملة، فوفقًا لصحيفة تايمز البريطانية فإن الحزب أضحى أقوى مما كان عليه قبل 20 عامًا، لا سيما في ظل الدعم الإيراني لقدرات الحزب، إذ تشير التقديرات إلى أنه يمتلك نحو 150 ألف صاروخ، إضافة إلى امتلاكه طائرات مسيرة وقذائف هاون ومدفعية صاروخية، كما أن لديه شبكة من الأنفاق المنتشر في جنوب لبنان وعلى الحدود السورية اللبنانية.
ويمتلك الحزب ما يقرب من 50 ألف مقاتل مدربين على القتال كجيش نظامي، ويستطيع الحزب إطلاق رشقات صواريخ من جنوب لبنان لتدمير المراكز السكانية والبنية التحتية في شمال إسرائيل وصولًا إلى حيفا وتل أبيب، وما يمثله كل ذلك من استنزاف ممتد لإسرائيل في تلك العمليات.
مجمل القول إن السيناريوهات المحتملة للمواجهات بين إسرائيل وإيران ستظل ردود محسوبة، فبرغم التصعيد الحاد على مستوى التصريحات الرسمية بين الجانبين لاعتبارات داخلية تتعلق بالتماسك الداخلي والحفاظ على صورة النظام وبقائه، إلا أن رغبة الدولتين في منع تمدد الصراع وتحوله إلى حرب شاملة لارتفاع تكلفتها، ربما تحول دون تدهور الأوضاع وخروجها عن السيطرة، لذلك سيتوقف الرد الإيراني المحتمل على ما ستسمح به توازنات القوى الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي ربما ستسمح لإيران بإعادة ما قامت به 13 أبريل 2024، ردًا على استهداف إسرائيل لقنصليتها في سوريا بإطلاق مجموعة من المسيرات أو الصواريخ تجاه إسرائيل دون أن تتكبد تل أبيب خسائر فادحة، أو أن إيران ستتجه نحو الرد الانتقامي الذي سيثأر لانتهاك سيادتها، وربما يكون ذلك هو السيناريو الأضعف.