الفلسطيني محمد الشريف: نحمل أكفاننا على أيدينا ونجوت من الموت كثيرًا
نزحت 4 مرات وانهرت من البكاء بعد استشهاد عمي وقُصف منزله بعد خروجي منه بساعة واحدة
قصف مستمر يزلزل الأرض تنهار على أثره المنازل وتتحول إلى أنقاض تقع على ساكنيها، ليستشهد كل من فيها وتنجو طفلة ووالدتها، أنقذتهما العناية الإلهية من تحت الركام، حيث لم يهم هذه الطفلة الصغيرة حياتها بقدر ما انتابتها حالة من الهلع على والدها الذي ابتلعته الأنقاض ولم يكن له أي وجود، فصرخاتها البريئة تدمي القلوب وهي تنادي بأعلى صوتها "بابا فين!"، ورائحة الموت في كل مكان.
قصة حقيقية من بين آلاف القصص الموجودة في غزة، كان المخرج الفلسطيني محمد الشريف شاهد عيان عليها، ليوثّقها في فيلم سينمائي حمل اسم "خارج التغطية"، وقدمه ضمن سلسلة "المسافة صفر" التي أشرف عليها المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، فرغم ما عاناه "الشريف" من ظروف قاسية تستحق أن تُروى في قصة منفردة، لكنه فضّل أن يوثّق للعالم جزءًا من واقع مؤلم يعيشه الفلسطينيون وأبناء شعب غزة بعد أن رأى بعينيه هذه الطفلة التي فقدت عائلتها بصواريخ الاحتلال الإسرائيلي التي طالت الحجر والبشر.
"حياتنا في غزة أصبحت صعبة، ونحمل أكفاننا على أيدينا، ونتوقع الموت في أي لحظة، وهذه الأحداث ليست قصة فيلم لكنها حقيقة نعيشها للأسف"، بهذه الكلمات أعرب "الشريف" الذي نجا من الموت أكثر من مرة، عن معاناتهم، ليقول في حواره مع موقع "القاهرة الإخبارية" كواليس القصة الحقيقية وكيف حوّلها إلى فيلم سينمائي: "حاولت تقديم جزء من قصتنا لأعبّر عن المعاناة التي نراها يوميًا، من خلال فيلم يسلّط الضوء على المفقودين تحت الركام، ولذلك أسميته "خارج التغطية" لأننا بالفعل كنا خارج التغطية.
ويضيف "كنت شاهد عيان على وقائع حقيقية ومآسٍ تحدث يوميًا في غزة، ففي يوم 16 ديسمبر 2023 سمعت صوتًا مدويًا وشعرت بزلزال وراء منزلي، بعد أن نسف الاحتلال 3 منازل مرة واحدة، وكان الجميع يهرول لإنقاذ الناس من تحت الأنقاض، ولمحت عيني هذه الطفلة التي خرجت من تحت الأنقاض وكُتبت لها النجاة هي ووالدتها، وكان كل همها البحث عن والدها.
يستكمل "ساعدها الجميع في البحث عنه كثيرًا.. لكن دون جدوى؛ لأنه كان من الصعب إزالة الركام، فكان مشهدًا قاسيًا ومؤلمًا، إذ ظللنا ساعات طويلة نبحث عنه وعن باقي المفقودين ولم نجدهم، كما ظل شقيقه يبحث عنه 3 أيام ولم يعثر عليه أيضًا، بينما كانت تأتي ابنته كل يوم للمكان أملًا في إيجاده على قيد الحياة، لكن حتى كتابة هذه السطور لا يزال جثمانه تحت الأنقاض، وحرصت على ألا أذكر هذا الأمر خلال الفيلم وتركت النهاية مفتوحة".
الظروف التي قاساها "الشريف" كانت ضاغطة على نفسه، فكيف يقدم عملًا وهو يعيش الموت كل يوم، وبالتالي لم يستطع اتخاذ قرار تصوير الفيلم بسهولة قائلًا: "عشت ظروفًا صعبة قبل تصوير الفيلم؛ لأنني خرجت من الموت وتم قصف أكثر من منزل لي، واستُشهد عمي وعائلته وبالتالي مررت بفترة صعبة، ولم أكن واعيًا لتصوير فيلم ولا أفكر في شيء سوى العيش والبحث عن مكان آمن، وبعد فترة قصيرة واستيعاب الحالة التي كنت فيها، تم ترشيحي لتصوير فيلم من أحداث حقيقية، وكنت مترددًا في الموافقة عليه بسبب ظروفي الصعبة، لكن قررت تنفيذه لأنني من العاشقين للسينما، فقبل الحرب كنت أكرّس كل وقتي لها وتعلمت التصوير والإخراج والتمثيل ودرست بمعهد السينما في مصر".
الصدمات المتتالية أفقدت "الشريف" وعيه وقدرته على الاستيعاب على مدار شهرين، إذ كان يشعر بأنه يعيش كابوسًا، لكن بعد أن فاق منه بدأ في تنفيذ العمل قائلًا: "جذبتني قصة الطفلة التي فقدت والدها تحت الركام وصورت مشاهد حقيقية من القصف، وكان معي صديقي الفنان "ثائر" الذي التقيت به بالمصادفة في أحد الأماكن التي نزحت إليها، وعرضت عليه الفكرة ووافق على الفور وصوّرنا الفيلم في المكان نفسه الذي شاهدت فيه القصة بجوار منزلي لأوثق مشاهد حقيقية".
تحديات كثيرة واجهها المخرج الفلسطيني يقول عنها: "كان من بين الصعوبات التي واجهتني هو تصوير الفيلم "one shot" بدون توقف، واستعنت بابنة شقيقي لتجسد دور الطفلة، وأعدت التصوير 15 مرة، إذ توليت مهمة المخرج والمصور، ورغم الخوف والقصف المستمر ووجود الطائرات على مسافات قريبة منا، استطعنا تنفيذ تصويره "one shot"، ولم أصدق أننا خرجنا من هذه التجربة أحياء".
يضيف: "أصعب مشهد أيضًا في العمل هو بكاء الطفلة، حيث شعرت بنفس مشاعر الفقد والخوف ودخلت في نوبة بكاء بعد انتهاء التصوير لمدة نصف ساعة، وخاصة أنني أسميت الشخص المفقود على اسم والدها، ولذلك كل المشاعر كانت حقيقية".
قصة مؤلمة
لدى "الشريف" قصة مؤلمة عاش فيها تجربة الموت أكثر من مرة سواء مع استشهاد عائلته أو نجاته من القصف، ومشاعر الموت التي سيطرت عليه ويعيشها يوميًا، فيقول: "نزحت من منزلي 4 مرات، أول مرة بعد أن سمعنا تهديدًا من الاحتلال بقصف المنطقة التي نعيش فيها، وهرولنا مسرعين بدون أي شيء، ثم نزحت لمنزل شقيقتي، في حين أن معداتي السينمائية لا تزال في منزلي الأول.
كما يضيف "وفي اليوم التالي غامرت وذهبت لمنزلنا الذي فررنا منه، ورغم سيطرة الخوف علي من الموت والقصف، لكن استطعت الحصول على المعدات وسيارتي، وبعد فترة قصيرة استشهد خالي وابنه، ثم استشهد صديق عمري "إيهاب"، كما نزحت مرة أخرى عند عائلة زوجتي وفي هذه اللحظة، الوضع أصبح صعبًا لأننا كنا في منطقة خطيرة، بها قصف مستمر وبالتالي كنت أردد الشهادتين كل ثانية، وطلبت الخروج من هذا المنزل، ولكن قوبل هذا الرأي بالرفض منهم وعلى الرغم من ذلك أصررت على موقفي بعدما رأيت الموت بعيني".
يقول:" في اليوم التالي نزحنا إلى رفح ولم يكن هناك وسائل مواصلات وبعد معاناة وصلت ووجدت مكانًا مناسبًا بمساعدة أصدقائي، ثم عدت إلى عمي أخبره بأننا سنتحرك في الصباح الباكر لهذا المكان الآمن، وخرجت من منزله في تمام الثامنة مساء، وبعد ساعة ونصف الساعة قُصف منزله واستُشهد معه شقيق زوجتي، ولم أعلم بذلك إلا بعد أن ذهبت له في اليوم التالي في الساعة السادسة صباحًا بحسب الموعد المتفق عليه للنزوح، فوجدت المنطقة كلها مدمرة بالكامل بعد قصفها، لم أتمالك نفسي من البكاء لمدة ساعة كاملة رغم أنني لم أبك طوال حياتي، لكن هنا شعرت بالقهر والعجز، فالموت يحوم من حولي حيث استشهدت سيدة أمامي بيني وبينها 4 أمتار، وتمكنت من استخراج جثة عمي وبعد شهرين تمكنت من استخراج جثة شقيق زوجتي وكانت معجزة لأنه لم يتحلل أو يتهشم عظمه، وكل ذلك جزء من الحالة الصعبة التي نعيشها، حيث أحلم بالموت كل يوم".
رغم صعوبة الحياة في غزة إلا أن الفلسطيني محمد الشريف مهموم بتوثيق كل ما فيها، حيث يعمل حاليًا على فيلم آخر يقول عنه: "صوّرت فيلمًا جديدًا يحمل اسم "الزنانة" يرصد معاناة الناس من الطائرات وتأثيرها علينا في غزة، وقبل 7 أكتوبر الماضي كان عندي مسلسل وصوّرت منه حلقتين وفجأة اندلعت الحرب وتوقف كل شيء في الحياة".