الفلسطيني نضال دامو يوثق رحلة شاقة لتقديم "ستاند أب كوميدي" في قلب الحرب.. "الاستحمام" مهمة صعبة
صوتنا كفلسطينيين غير مسموع لكن ما زال على الأرض ما يستحق الحياة
كوميديا سوداء تنقلب إلى دموع، فرغم صعوبة الواقع الذي يعيشه سكان قطاع غزة، لكن بصيص الأمل ما زال يحركهم ويبحثوا عن الابتسامة التي تعتبر غايتهم لتجاوز مرارة الوضع المفروض عليهم، في ظل حرب شنعاء بالغة القبح، فرغم ما قاساه المخرج الفلسطيني نضال دامو، في ظل وضع مأساوي، لكنه استطاع تجسيد مرارة الواقع بحس فكاهي يصل حد البكاء، من خلال فيلم اختار له اسمًا ساخرًا "كلو تمام"، وكأنه يتحدى به كل الظروف ليقابل قسوة الحياة بالسخرية ولإيمانه بأنه ما زال على الأرض ما يستحق الحياة.
وثق نضال دامو جزءًا من قصته الواقعية في فيلم تسجيلي قدمه ضمن سلسلة أفلام "المسافة صفر"، التي يشرف عليها المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، ويبدو للوهلة الأولى أنه مسرحية ساخرة أو موقف كوميدي لشاب فلسطيني يحاول الحصول على أدنى حقوقه في الحياة وهى الاستحمام من أجل الاستعداد لتقديم عرض "ستاند أب كوميدي" للجمهور، لكن هذه المهمة تبدو مستحيلة في ظل ظروف الحرب التي حولت الجميع إلى نازحين في المخيمات بعد أن قصفت ودمرت بضراوة كل شيء وعرقلت كل الحياة بما فيها الحصول على الماء والخبز والمكان الآمن.
مشاهد واقعية مؤلمة سردها نضال دامو، وثق فيها قصته، التي كشفها في حواره مع موقع "القاهرة الإخبارية"، ويقول عنها: "غيرت الحرب وجه الحياة، فقصتي كفنان فلسطيني موجودة في قطاع غزة، وكنت أقدم عادة "ستاند أب كوميدي" مرة أو مرتين أسبوعيًا، لكن بسبب اندلاع الحرب تغيرت الظروف رأسًا على عقب، وتصبح أدنى مقومات الحياة منعدمة، فاضطر إلى تحطيم الأبواب والنوافذ لعدم توافر الغاز والمياه وأدوات للطبخ، إذ نقاسي كل ويلات الحرب ومراحلها ورغم ذلك يكون همي تقديم ستاند أب كوميدي بأي طريقة".
وعبر "دامو" عن رحلته وقصته المؤلمة بطريقة ساخرة فمن يرى الفيلم لا يعرف هل يضحك أم يبكي من مرارة ما يشاهده، إذ يقول عنها: "قررت تقديم ستاند أب كوميدي للجمهور من قلب الحرب، وواجهت العديد من الصعوبات، منها كيفية تجميع الجمهور واختيار المادة التي أقدمها له، التي ستكون مختلفة تمامًا عما كنت أقدمه سابقًا، وتغيرت بحسب الظروف التي نعيشها، إضافة إلى وجود مطلب إنساني رغم أنه يبدو بسيطًا للغاية، لكنه صعب جدًا هو الاستحمام، فهذا الأمر سهل تحقيقه بالنسبة لكل الناس باستثناء الغزاويين فقد أصبح صعبًا للغاية، وفي كل مرة أحاول الاستحمام فيها تقابلني مشكلة إما عدم توافر الماء والوقوف في صفوف طويلة، أو أن يكون المكان غير مهيأ، فالصعوبة تزيد في الحصول على الماء للاستحمام ثم البحث عن مكان مناسب في قلب الحرب لتقديم العرض للجمهور، وبعد أن وجدت الماء ذهبت إلى "الحلاق" في مخيمه، ثم أشعلت النيران لتسخين المياه والاستحمام في المخيم، وبعد أن تهيأت كل الظروف وبدأت في تنظيف جسدي، قصف الاحتلال المنطقة وتطاير المخيم الذي كنت فيه، لأجد نفسي في العراء، لأهرول مُسرعًا للتخفي، وبعد معاناة قاسية ورحلة طويلة أنجزت المهمة الصعبة وهي الاستحمام".
لم تقف المفارقات عند هذا الحد، إذ يقول المخرج الفلسطيني عنها: "الهدف الذي أسعى له لم يتحقق بعد ذهابي للمكان الذي نزحت منه في منطقة النصيرات، حيث غمرتني سعادة كبيرة بأنني سأقدم عرض "ستاند أب" في المنطقة التي كنت أسكن فيها قبل النزوح إلى رفح بعد اجتياح إسرائيل لها، لكن المفاجأة هي أن المكان الذي كنت سأقدم فيه العرض تم قصفه واستُشهد من كان به بالكامل، وعلى الرغم من كل هذه المأسي أوجه رسالة في نهاية الفيلم أننا كفلسطينيين مُصرين على الحياة لأننا نؤمن أن على الأرض ما يستحق هذه الحياة".
ويضيف: "الفيلم يمثل جزءًا من قصتي الحقيقية التي أردت روايتها بشكل واقعي ضمن مشروع "المسافة صفر" فاخترت طريقة تبدو ساخرة ،لكنني لم أروي كل ما حدث في قصتي وكيف واجهنا الحرب والجوع والقصف، فالشارع الذي كنت أقطن فيه تم قصفه وتدميره واستشهد أكثر من نصف الذين يعيشون فيه خلال أقل من 12 ساعة، وتم تدمير منزلي وتضررت عائلتي، وبالتالي قررنا النزوح إلى دير البلح تجاه الجنوب بحسب ما أبلغنا الجيش الإسرائيلي".
صعوبات كثيرة مر بها "دامو" خلال نزوحه من مكان لآخر، فيسرد قصته قائلا: "رحلة النزوح لم تكن سهلة حيث واجهنا صعوبات كثيرة منها كيفية نقل عائلتي، إذ لا توجد وسائل مواصلات باستثناء عربات الكارو، والسير لمسافات طويلة، ونمت ليلة كاملة في الشارع بمنطقة دير البلح حيث لم يكن هناك مكان نسكن فيه، وتعرضنا للجوع ليالٍ طوال، واستخدمنا الأدوات البدائية مثل الرحى لطحن الشعير والقمح، وتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية، بجانب الخوف المتزامن الذي لا يفارقنا، كما واجهت صعوبة الاستعانة بمصور لتصوير الفيلم فاضطررت لتصويره بنفسي".
واختار "دامو" السخرية من مرارة الواقع باختياره اسمًا مغايرًا للحقيقة "كلو تمام" في حين أن الوضع لم يكن على ما يُرام، فيقول: "بدأت العمل عليه بتشجيع من المخرج رشيد مشهراوي، الذي دعمني وأكد لي أننا شعب قادر على التحدي والصمود وهذا دورنا في توصيل صوتنا لكل العالم لأن صوتنا كفلسطينيين غير مسموع وصوت العدو هو المرتفع فقط بينما صوت الضحية لا يسمعه العالم، وبالتالي أعتبر هذا الفيلم نوعًا من المقاومة وأن الفنانين جزء من المقاومة، ولذلك وثقت كل أحداثه بهاتفي إذ لم يكن معي أي إمكانات، حتى شحن الهاتف وكانت مهمة صعبة جدًا مع عدم توفر الكهرباء، كما كنت أسير على أقدامي مسافة 1000 متر ذهابًا وإيابًا، وأحاول توفير طاقة الهاتف للتصوير، وبالفعل صورت أماكن حقيقية في المدارس والشوارع والمخيمات، فلم أكن بحاجة لمكان تصوير محدد لأن المشاهد في كل مكان تعرضت فيه للنزوح أكثر من مرة".
استغرق تصوير الفيلم نحو شهر ونصف الشهر، ليعلل المخرج الفلسطيني سبب طول المدة رغم قصر مدة عرضه قائلًا: "العمل تم تصويره في ظروف صعبة، والقصف في كل مكان حتى بجواري في أثناء سيري بالشوارع، فلا يوجد مكان آمن، ونظرًا لعدم وجود معدات في غزة، فتم مونتاج الفيلم في فرنسا عند المخرج رشيد مشهراوي، الذي أوجه له الشكر وللموسيقار نصير شمة، الذي وضع الموسيقى التصويرية".
كانت ردود فعل الجمهور على الفيلم قوية ومؤثرة فيقول عن ذلك: "المخرج رشيد مشهراوي قال لي إنه خلال عرض الفيلم في افتتاح مهرجان عمان السينمائي، وجد الناس تضحك وتبكي في ذات اللحظة، وهذا أسعدني للغاية لأنني استطعت توصيل صوتنا للخارج فهي قصتنا التي تستحق روايتها".