مُعتز بعروبته ومُرتكز على أنغام شرقية، رسم الفنان الراحل فريد الأطرش اسمه في تاريخ الأغنية العربية مُلحنًا وعازفًا ومُطربًا، إذ يشهد مشوار الفنان الكبير الذي ولد في مثل هذا اليوم 26 ديسمبر، الكثير من العلامات المضيئة التي تشير إلى أن حديثه الدائم عن إيمانه بمفهوم الوطن العربي الواحد كان صادقًا ونابعًا من القلب.
عبّر فريد الأطرش كثيرًا عن سعادته بوجود فنانين من الخليج ومن الشام في مصر والعكس أيضًا، لما له من دور كبير في تأكيد أن الشعوب العربية تمتلك تاريخًا وثقافة مشتركة، الأمر الذي يتجلى واضحًا في أوبريت "بساط الريح" عام 1949 بفيلم "آخر كدبة"، من كلمات شاعر الشعب محمود بيرم التونسي.
تغنى فريد الأطرش، في الأوبريت بجمال مختلف بلدان الوطن العربي، متنقلًا ما بين سوريا ولبنان والعراق، ثم إلى الشمال الإفريقي وتونس الخضراء عودة إلى وادي النيل ومصر، وفي كل مقطع غنائي يخص بلدًا عربيًا حرص على أن يُصاغ بألحان تُعبر عن الموسيقى التي تُميز شعبه، ومرتديًا أزياء من ثقافته.
لدى فريد الأطرش مواقف وطنية كثيرة تؤكد أن القضايا العربية دائمًا ما كانت تشغل باله، منها دعمه لثورة يوليو 1952، وغناؤه للوطن الذي قال عنه في لقاء تليفزيوني قديم: "إن الأغنية الوطنية أنبل الأغاني التي من الممكن أن يقدمها الفنان لأنها موجهة للوطن العزيز"، ومن هذه الأعمال "يا مصر كنت في غربة وحيد" المعبرة عن تجربة خاصة، ومشاعره في أثناء وجوده بلندن وقت الحرب العالمية الثانية وتعذر رجوعه إلى مصر، ومن أعماله الوطنية أيضًا "المارد العربي" و"انتباه".
ويُعزى اهتمام فريد الأطرش بقضايا وطنه العربي إلى أن عائلته صاحبة نضال وطني كبير، إذ إنه حفيد سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى، ضد الاستعمار الفرنسي عام 1925، كان لوالده فهد الأطرش دور وطني، وعانى المطرب الراحل من ملاحقة سلطات الاحتلال له ولعائلته حتى جاء إلى مصر، وشارك كثيرًا في حفلات يعود ريعها إلى قوات المقاومة، ليُغني قصائد تُعلي من الروح المعنوية له وتهاجم المحتل.
فريد الأطرش وآلة العود
من ملامح اعتزاز فريد الأطرش بعروبته اختياره لآلة العود للعزف عليها، أحد أبرز الآلات الموسيقية المميزة للتخت الشرقي، ويرجع تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد وفقًا لبعض التقارير والدراسات، إذ إنها متوغلة في الفن الشرقي.
وارتبط اسم فريد الأطرش بالآلة الموسيقية الشرقية، حتى أطلق البعض عليه لقب "صاحب العود الشجي"، وسبق أن عبّر الموسيقار عن حزنه لانحسار دور آلته المفضلة في التخت الشرقي بالعقد السادس من الألفية الماضية، مرجعًا ذلك إلى قلة مهارة من العازفين.
ولم ينجح الفنان العربي في صياغة ألحان شرقية فقط، بل طوّع آلة العود لتعزف مقطوعات موسيقية غربية، مثلما فعل في مقدمة أغنية "حكاية غرامي"، إذ إن الموسيقى الأصلية إسبانية وليست من تلحينه، وفي النسخة الأساسية استخدم عازفوها الجيتار والبيانو، لكنه في مقطوعته قدمها بألحان شرقية على أوتار العود.
الوصول إلى العالمية
ووصلت موسيقى فريد الأطرش إلى العالمية، إذ أخذ فرانك بورسل، قائد الأوركسترا الفرنسية، منه العديد من الألحان منها رائعته "نجوم الليل"، "حبيب العمر"، "ليلة"، "زمردة" وأسطوانات بيعت في كل البلدان الأوروبية، ووضعت صحيفة "لوموند" الفرنسية اسمه ضمن قائمة نجوم شباب الأفلام الموسيقية، وأهم المطربين والممثلين في العالم رفقة الأمريكي فريد أستير، والألماني بيتر ألكسندر ومغني الروك أند رول الشهير ألفيس بريسلي، في مقال بعنوان "تحت عنوان ملوك السينما والأفلام الموسيقية".
لكن اهتمام فريد الأطرش بموسيقاه وفنه، جعله يعمل ساعات طويلة دون أن يهتم بصحته، حتى فاجأته آلام المرض عام 1967، وأصيب بـ3 جلطات في القلب، وتضخم بالقلب وانسداد في الشرايين، وتأثر الكبد أيضًا، وتم منعه بأوامر الطبيب من الغناء والعزف على العود، والخلود إلى فترة راحة طويلة، استأنف بعدها نشاطه الفني، ثم رحل عن عالمنا عام 1974.