انقلبت موازين القوى في فرنسا رأسًا على عقب، فبعد أسابيع من توقعات بصعود اليمين، فاجأ تحالف اليسار الجميع بفوز مدوٍ في الانتخابات التشريعية، وهذا التحول الجذري في المشهد السياسي الفرنسي فتح الباب على مصراعيه أمام سيناريوهات متعددة ومعركة محتدمة على منصب رئيس الوزراء، خاصة بعد إعلان جابرييل أتال، رئيس الوزراء، عزمه الاستقالة من منصبه صباح اليوم الاثنين.
زلزال سياسي
في تفاصيل هذا الزلزال السياسي، تكشف صحيفة "بوليتيكو" الأوروبية أن الجبهة الشعبية الجديدة - تحالف يساري تشكل على عجل قبيل الانتخابات - نجح في تحقيق المستحيل، إذ إن الجبهة التي تجمع تحت مظلته الاشتراكيين والخضر والشيوعيين وحركة "فرنسا الأبية" بقيادة جان لوك ميلينشون - تمكنت من التفوق على منافسيها وإزاحة حزب التجمع الوطني اليميني بقيادة مارين لوبان إلى المرتبة الثالثة.
هذه النتيجة غير المتوقعة لم تقلب فقط التوقعات السياسية رأسًا على عقب، بل فتحت الباب أمام سيناريو لم يكن في الحسبان، وهو تشكيل حكومة يسارية في فرنسا للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.
ويشير تقرير "بوليتيكو" إلى أن هذا التطور يضع الرئيس إيمانويل ماكرون في موقف صعب، إذ يتعين عليه الآن التعامل مع واقع سياسي جديد قد يفرض عليه اختيار رئيس وزراء من معسكر مناوئ لسياساته.
معركة الكراسي
مع إسدال الستار على المعركة الانتخابية، بدأ صراع آخر لا يقل حدة، هو النزاع على منصب رئيس الوزراء.
وتكشف "بوليتيكو" أن هذا الصراع لا يدور فقط بين اليمين واليسار، بل داخل صفوف التحالف اليساري نفسه، فخلال الحملة الانتخابية، تجنب التحالف اليساري عمدًا تسمية مرشح لرئاسة الوزراء، لتفادي الخلافات الداخلية.
وبعد الفوز غير المتوقع، بات لزامًا على الأحزاب المتحالفة الاتفاق على اسم واحد لقيادة الحكومة.
وتستعرض الصحيفة أربع مجموعات رئيسية من المرشحين المحتملين لهذا المنصب الرفيع:
ميلينشون وأتباعه
تبرز حركة "فرنسا الأبية" بقيادة جان لوك ميلينشون كأقوى مكون في التحالف اليساري من حيث عدد المقاعد البرلمانية.
هذا الوزن البرلماني، إلى جانب الأداء القوي لميلينشون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يمنح الحركة حجة قوية للمطالبة بمنصب رئيس الوزراء.
ولا تبدو الأمور بهذه البساطة، فبالرغم من أن ميلينشون نفسه قد يكون الخيار الأوضح، فإن أسلوبه السياسي المثير للجدل ومواقفه المتشددة في قضايا الاقتصاد والسياسة الخارجية تجعله شخصية "مرفوضة" بالنسبة للناخبين المعتدلين.
وتنقل "بوليتيكو" عن قادة أحزاب أخرى في التحالف تأكيدهم خلال الحملة الانتخابية، أنهم لن يدعموا ميلينشون لرئاسة الوزراء.
وفي ظل هذا الواقع، تطرح الصحيفة أسماء أخرى من حركة "فرنسا الأبية" كبدائل محتملة، منها مانويل بومبار، منسق الحركة، متيلد بانو، رئيسة الكتلة البرلمانية للحركة، كليمانس جيتيه، الوجه الصاعد في الحركة، وإريك كوكريل، رئيس لجنة المالية في الجمعية الوطنية الفرنسية.
البحث عن بديل
تكشف "بوليتيكو" عن مجموعة ثانية من المرشحين المحتملين، هم شخصيات كانت في السابق حليفة لميلينشون، لكنها انفصلت عنه لاحقًا، هؤلاء قد يقدمون أنفسهم كبدائل أقل إثارة للجدل من ميلينشون مع الحفاظ على التوجه اليساري المتشدد.
من أبرز هذه الأسماء فرانسوا روفان، الصحفي والمخرج السينمائي السابق، الذي يطمح للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
روفان انتقد حركة "فرنسا الأبية" لما وصفه بنقص التواصل مع المناطق الريفية الفرنسية، ووصف ميلينشون بأنه "عبء" على الحركة.
اسم آخر بارز في هذه الفئة، هو كليمنتين أوتان، التي كانت جزءًا من مجموعة "فرنسا الأبية" في البرلمانين السابقين، لكنها أصبحت أكثر انتقادًا لميلينشون أخيرًا.
وتنقل "بوليتيكو" عن أوتان، الشهر الماضي، أنها "مدركة" لكونها "من بين من يمكنهم المطالبة بمنصب رئيس الوزراء في حال الفوز".
عودة الماضي
في مفارقة دراماتيكية، يجد الحزب الاشتراكي الفرنسي نفسه في موقع قوة بعد أن كان على شفا الاندثار السياسي، فبعد أدائه الكارثي في الانتخابات الرئاسية عام 2022، إذ حصل على 1.7% فقط من الأصوات، شهد الحزب نهضة غير متوقعة تُوجت بأدائه القوي في الانتخابات الأوروبية، وتصدر القوى اليسارية بنسبة 14% من الأصوات.
هذه العودة القوية، وفقًا لـ"بوليتيكو"، تمنح الاشتراكيين أملًا في المنافسة على منصب رئيس الوزراء، ورغم أن عدد نوابهم أقل من "فرنسا الأبية"، إلا أنهم عززوا وجودهم في البرلمان وقلصوا الفارق مع حركة ميلينشون، ويأملون في الحصول على دعم حزب الخضر لوقف سيطرة "فرنسا الأبية" على المشهد.
وتطرح الصحيفة الأوروبية عدة أسماء من الجيل الجديد للاشتراكيين كمرشحين محتملين، منهم أوليفييه فور، الرئيس الحالي للحزب، بوريس فالو، رئيس الكتلة البرلمانية المنتهية ولايته، ورافائيل لوكسمان، المرشح الرئيسي في الانتخابات الأوروبية.
وتبقى المفاجأة الكبرى تتمثل في عودة أحد أبطال الماضي، وهو فرانسوا هولاند، الرئيس الاشتراكي السابق لفرنسا، الذي عاد إلى الجمعية الوطنية بعد فوزه في دائرته الانتخابية السابقة، ليصبح ثاني رئيس في تاريخ فرنسا الحديث، يعود إلى البرلمان بعد توليه منصب رئيس الدولة.
الخيار الحيادي
في محاولة لتجنب الصراعات الحزبية، قد يلجأ اليسار إلى خيار رابع، هو اختيار شخصية من خارج المشهد السياسي لرئاسة الوزراء، إذ تكشف "بوليتيكو" أن هذا الخيار طُرح بالفعل الشهر الماضي، من قبل النائب الأوروبي الاشتراكي رافائيل جلوكسمان، الذي اقترح اسم لوران بيرجيه، الزعيم السابق لنقابة الكونفدرالية الديمقراطية الفرنسية العمالية.
بيرجيه - وفقًا للتقرير - يحظى باحترام واسع في أوساط اليسار واليمين على حد سواء، ويُعرف بقدرته على خلق التوافق وجسر الهوات، غير أن نهجه المعتدل قد يكون نقطة ضعف في نظر ميلينشون وأنصاره المتشددين.