بينما تتزايد وتيرة التوترات بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، ووسط الخشية من اتساع دائرة الصراع الجغرافية بعيدًا عن أوكرانيا إلى دول أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق. يشعر عدد من سكان إستونيا ولاتفيا وبولندا، الذين يعيشون بالقرب من الحدود الروسية، باقتراب الحرب التي دمرت سُبل عيشهم وحطّمت إحساسهم بالأمان.
وعندما يتحدث المسؤولون في بروكسل والعواصم الأوروبية الأخرى عن خطر تصعيد الصراع مع روسيا، فإنهم يقصدون هذا الجزء من القارة، بحسب النسخة الأوروبية من صحيفة "بوليتيكو".
ودعّمت إستونيا، وهي دولة عضو في الناتو، أوكرانيا في حربها مع جارتهما المشتركة روسيا، منذ بدء العملية العسكرية الروسية واسعة النطاق في أوكرانيا في عام 2022. وكانت أولوية حلف شمال الأطلسي "الناتو" منذ ذلك الحين هي الدفاع عن المناطق الشرقية لأوروبا.
ومن الطرف الشمالي للنرويج، إلى ساحل البحر الأسود، مرورًا بفنلندا ودول البلطيق وبولندا، ينزل ستار حديدي جديد على شكل أسلاك شائكة وسياج.
وعلى عكس الجزء الجنوبي الشرقي من هذه المناطق الحدودية عبر أوكرانيا، فإن هذا الامتداد من الأراضي أصبح على نحو متزايد منطقة ما يسمى "صراع المنطقة الرمادية"، حيث يتخذ الصراع شكل الهجمات السيبرانية والاختطاف وأعمال التخريب.
المنطقة الرمادية
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حدث تطور في التبادل الحيوي للسلع والخدمات بين مواطني روسيا والمناطق الواقعة على الجانب الأوروبي، مع تدفق مستمر من المسافرين الذين يعبرون الحدود في كلا الاتجاهين.
كما تدين مدن في لاتفيا، مثل فورو وألوكسني، ببعض نموها إلى مواقعها الملائمة على الطرق التجارية وطرق السكك الحديدية بين عاصمة الإمبراطورية الروسية القديمة، سانت بطرسبرج، عبر بسكوف، وحتى العاصمة ريجا وخارجها.
لكن، حسب تحليل لصحيفة "بوليتيكو"، كان ظهور حرب المنطقة الرمادية على مدى العقد الماضي سببًا في إثارة حالة من القشعريرة لدى جيران روسيا الأوروبيين.
فقد تم القبض على مسؤول أمني إستوني من قِبل عملاء روس في غابة بالقرب من منطقة فورو (محمية طبيعية في السويد)، في عام 2014، وتمت مبادلته لاحقًا بجاسوس روسي مدان.
كما أن هناك شائعات حول أن السلطات الروسية والبيلاروسية، ترسل منذ سنوات مهاجرين غير شرعيين عبر المعابر الحدودية الفنلندية والبولندية ودول البلطيق، في محاولة لزرع الفوضى.
وتدلل الصحيفة على هذه المزاعم بتضرر كابلات وخطوط الأنابيب تحت بحر البلطيق في سلسلة من الحوادث الغامضة. وفي أبريل الماضي، ألغيت الرحلات الجوية التجارية إلى مطار تارتو الشرقي في إستونيا بعد تعطل إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) بفِعل أنظمة روسية، كما زُعم.
اليوم، أصبحت المنطقة الحدودية -التي كانت تعج بالحركة ذات يوم- هادئة بشكل مخيف، والطريق السريع الرئيسي المؤدي إلى روسيا شبه فارغ بالكامل، ويرجع ذلك جزئيًا إلى العقوبات التجارية الغربية المفروضة على الكرملين، وكذلك بسبب القيود المفروضة على السياح الروس الذين يسعون إلى دخول إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، منذ أواخر عام 2022.
وبالمقارنة مع ما يحدث في أوكرانيا، من الواضح أن حوادث المنطقة الرمادية صغيرة من حيث الحجم والتأثير، لكن القادة المحليين يأخذونها على محمل الجد بشكل متزايد "باعتبارها نذيرًا لتصعيد مستقبلي"، وهم الآن يكثفون دفاعاتهم الحدودية المادية، حسب "بوليتيكو".
نقاط ساخنة
في ديسمبر الماضي، عاد رئيس المجلس الأوروبي السابق دونالد تاسك إلى رأس السلطة في بولندا ليطيح بثماني سنوات من حكم حزب "القانون والعدالة" القومي المحافظ.
ورغم أن الحزب فقد السيطرة على الحكومة في الانتخابات الوطنية التي جرت العام الماضي، إلا أن ما يقرب من نصف سكان المنطقة الرمادية على الحدود مع روسيا، دعّموا معارضي تاسك.
وفي الفترة التي سبقت الانتخابات الأوروبية، ركّز حزب "القانون والعدالة" على قضايا الأمن القومي والتدخل الروسي. في المقابل، ركّزت حكومة تاسك ونظراؤها في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي على الدور الأساسي الذي تلعبه بولندا في الدفاع عن الخطوط الأمامية، والسير على حبل دبلوماسي مشدود بين الشرق والغرب.
أخيرًا، كشفت الحكومة البولندية عن خطط لإنفاق 2.4 مليار يورو لتحصين الحدود الشمالية الشرقية، في حين كان حزب "القانون والعدالة" يتحدث عن سجله في مجال الدفاع، بما في ذلك خطط لبناء حاجز حدودي مع كالينينجراد، واللعب على جو من الخوف على هذا الجانب من السياج.
ممر سوفالكي.. المنطقة الأخطر
لكن المنطقة الأخطر هي "ممر سوفالكي" أو "ممر سواكي" -ممر طوله قرابة 60 ميلًا ويعد منطقة قليلة السكان تقع بين حدود ليتوانيا وبولندا وبين بيلاروسيا ومقاطعة كالينينجراد الروسية- الذي اعتبر لفترة طويلة واحدًا من أخطر بؤر التوتر المحتملة في الحرب بين روسيا والغرب.
ومنذ ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم في عام 2014، اقترح بعض المحللين أن هذا الجزء من بولندا سيكون الهدف التالي، حيث تنتشر فيه القرى ذات الكثافة السكانية المنخفضة والأراضي الزراعية الخضراء.
ولا تزال ذكريات الحرب العالمية الثانية، عندما استسلم الجيش البولندي في المنطقة دون قتال أمام القوات السوفييتية المتقدمة، حية في الأذهان.
وفي ظل الحكم الشيوعي، كان شمال شرق بولندا يضم عددًا من القواعد العسكرية تقريبًا مثل عدد المدن. وقد بدأت في الإغلاق في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن تم إحياؤها منذ النشاط العسكري الروسي المستمر على مدى العقد الماضي.
وتوسعت قاعدة سوفالكي العسكرية، حيث تجري قوات حلف شمال الأطلسي تدريبات متكررة في المنطقة.
أيضًا، في أبريل الماضي، زار رئيس الوزراء الإستوني كاجا كالاس نقطة "لوهاما" الحدودية، الواقعة بين إستونيا وروسيا، لمناقشة قضايا الأمن. وكان منذ فترة طويلة أحد أشد منتقدي الكرملين، ودعا الناتو بصوت عالٍ إلى بذل كل ما في وسعه لمساعدة أوكرانيا على التغلب على روسيا.
لكن الحاضرين في الاجتماع أثاروا مسألة توسيع منطقة التدريب العسكري بالقرب من مقاطعة "فورو" الحدودية، وقالوا إن ذلك جعلهم هدفًا للقوة الروسية. حيث لا توجد ملاجئ أو مكان للاختباء، وفي الوقت نفسه، تعاني المنطقة من الافتقار إلى الدفاعات الجوية. حسبما نقلت "بوليتيكو" عن سكان المنطقة.
وتشير الصحيفة إلى أنه "بالنسبة للسكان المحليين، تلاشت الآمال في إقامة علاقات طبيعية عبر الحدود مع روسيا، مع اختفاء السيارات الروسية التي كانت شائعة في شوارع فورو".