خلّفَ الاجتياح البرى الذى نفذه جيش الاحتلال داخل بلدة جباليا ومخيمها شمالي قطاع غزة، على مدار 20 يومًا، طرقات ومنازل وبنية تحتية مدمرة، وعشرات من الجثث المشوهة.
وعندما عاد الأهالي إلى منازلهم وممتلكاتهم بعد انسحاب جيش الاحتلال في وقت سابق أمس الجمعة، وجدوا أطلالًا فقط في المكان، وكأنه تعرض إلى زلزال مدمر جعل البلدة ومخيمها، الذي يحمل اسمها ويضم لاجئين فلسطينيين، بيئة غير صالحة للعيش.
ويتلفت العائدون إلى مخيمهم هنا وهناك، وأفواههم مفتوحة من الدهشة؛ فالمنازل الإسمنتية التي كانت تلتصق ببعضها البعض، تكدست فوق بعضها لتصبح ركامًا، فيما سحقت الجرافات الشوارع الممهدة.
بينما يقول هؤلاء، والحزن يعتصرهم، بأنه لم يعد بإمكانهم تمييز معالم مخيمهم، ولا حتى أماكن منازلهم، بسبب الدمار الهائل الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية.
والفلسطيني محمد المصري (27 عامًا) هو واحد من أفراد آلاف الأسر التي نزحت قسرًا من مخيم جباليا والمناطق المحيطة به إلى أماكن مختلفة في القطاع، بعد بدء جيش الاحتلال عمليته البرية الأخيرة هناك في 12 مايو الجاري.
قال محمد: "الدمار هائل في كل مكان، يمكن رؤيته في كل زقاق، ومعالم المخيم تغيرت تمامًا.. الاحتلال دمر كل شيء، حتى المداس وآبار المياه، وأصبحت الحياة غير صالحة هنا".
ورغم الدمار الهائل، يُظهر محمد إصرارًا على الحياة والتمسك بمخيمه، قائلًا: "المكان بات غير صالح للحياة هنا، إلا أننا سنعيد بناء مخيمنا، وسنعيش على أطلاله، فلا بديل عنه".
منطقة منكوبة
من جهته، وصف متحدث الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، مخيم جباليا بـ"المنطقة المنكوبة" جراء العملية العسكرية الإسرائيلية.
وقال بصل، إن طواقم الدفاع المدني "انتشلت أكثر من 70 شهيدًا، معظمهم نساء وأطفال، من مخيم جباليا"، بعد ساعات من انسحاب جيش الاحتلال منه.
وأضاف أن "هؤلاء بينهم نحو 30 شهيدًا من عائلة عسلية وحدها، 22 منهم أطفال ونساء".
وتابع: "طواقمنا لم تنته من عملها بعد في جباليا، ومستمرة في البحث عن مزيد من الشهداء تحت أنقاض المنازل المدمرة".
وأوضح أن "الاحتلال دمر البنية التحتية في جباليا ومحيطها، حيث تم تدمير شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والمدارس والمرافق الصحية وعشرات المنازل".
وأشار إلى أن "قوات الاحتلال دمرت، كذلك، المولدات الكهربائية الرئيسية في مستشفى كمال عدوان شمالي قطاع غزة".
وأكمل متحدث الدفاع المدني: "الاحتلال دمر الطابق الخامس من مستشفى العودة في جباليا".
تاريخ مخيم جباليا
ومخيم جباليا من أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، حيث يقع شمالي القطاع بالقرب من بلدة تحمل ذات الاسم.
وفي أعقاب حرب 1948، استقر اللاجئون في المخيم، ومعظمهم فروا من القرى الواقعة جنوبي فلسطين، التي احتلتها العصابات الصهيونية آنذاك.
وقبل العملية الإسرائيلية على المخيم، كان عدد سكانه يُقدر بأكثر من 116 ألف لاجئ مسجل، حيث عاشوا على مساحة تبلغ فقط 1.4 كيلومتر مربع، وفق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
كما كان يوجد في المخيم، قبل العملية، العديد من المنشآت التابعة للأونروا، منها 16 مبنى مدرسي، ومركز لتوزيع الأغذية، و3 مراكز صحية، ومكاتب للإغاثة والتنمية، ومكتبة عامة، وآبار مياه. لكن كل ذلك بات "أثرًا بعد عين"، جراء العملية العسكرية الإسرائيلية.
تقارير مروعة
حجم الدمار الهائل الذي ضرب مخيم جباليا، رصدته منظمات دولية إغاثية وحقوقية ومؤسسات محلية، في بيانات منفصلة، أمس الجمعة، إذ قالت "أونروا" إنها تلقت تقارير "مروعة" عن تدمير وجرف قوات الاحتلال مكاتبها في مخيم جباليا.
وأضافت أن "نازحين، بينهم أطفال كانوا يحتمون بمدارسنا في جباليا، استشهدوا وجرحوا على يد جيش الاحتلال"، ولفتت الوكالة إلى أن "جيش الاحتلال أضرم النار في خيام أشخاص لجؤوا إلى مدارسنا".
وأوضحت أن "أكثر من 170 مبنى للأونروا في جميع أنحاء قطاع غزة تعرض لأضرار أو للتدمير منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر"، ودعت الوكالة إلى "وقف الهجمات ضد مكاتبها، وحثت العالم على التحرك لمحاسبة الجناة".
تدمير شامل لمقومات الحياة
بينما قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن جيش الاحتلال تعمد على مدار 3 أسابيع من عمليته العسكرية في جباليا الإمعان في جريمة التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين، عبر تدمير شامل لمقومات الحياة والسكن والنجاة المتبقية في المخيم.
وأضاف المرصد: "إلى جانب جرائم استهداف المدنيين والقتل العمد والاعتقالات التعسفية، خلفت العملية العسكرية الإسرائيلية تدميرًا هائلًا تسبب في محو مربعات سكنية بأكملها".
ولفت إلى أن التدمير "طال مئات المنازل والمباني في المخيم، بما في ذلك مراكز الإيواء والمراكز الطبية والتموينية التابعة لأونروا، وآبار المياه التي كانت الأونروا تشرف على تشغيلها لتزويد السكان بالماء".
سياسة الأرض المحروقة
أما المكتب الإعلامي الحكومي بغزة فقال، إن جيش الاحتلال استخدم خلال اجتياحه مخيم جباليا والمناطق المحيطة به سياسة "الأرض المحروقة"، ودمر مربعات سكنية كاملة؛ ما تسبب في تهجير 200 ألف فلسطيني.
وذكر مدير المكتب سلامة معروف، أن الفيديوهات والصور التي خرجت من مخيم جباليا بعد انسحاب جيش الاحتلال منه "تظهر بشاعة الفظائع والجرائم التي ارتكبها في مخيم جباليا ومشروع بيت لاهيا، وحجم الدمار والتخريب الذي ألحقه بمنازل المواطنين والمنشآت الخدماتية والمرافق العامة".
وأشار معروف إلى أن "فرق الإسعاف والدفاع المدني انتشلت عشرات الشهداء طيلة فترة الاجتياح وبعد الانسحاب، وتواصل البحث حاليًا عن عشرات المفقودين بين ركام المنازل ومراكز الإيواء والمدارس والمستشفيات التي لم تسلم من القصف والتدمير".
وفي وقت سابق أمس الجمعة، أعلن جيش الاحتلال، في بيان، إنهاء عمليته العسكرية في جباليا، التي استمرت 20 يومًا وقتل خلالها 10 جنود من قواته.
وخلال التوغل الإسرائيلي في جباليا، نفذت الفصائل الفلسطينية العديد من العمليات ضد الجنود المتوغلين؛ ما أدى إلى مقتل وإصابة وأسر العديد منهم، بالإضافة إلى استهداف الآليات العسكرية، كما سبق أن أعلنت في بيانات.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، تشن إسرائيل حربًا مدمرة على غزة بدعم أمريكي مطلق، خلفت أكثر من 118 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، ونحو 10 آلاف مفقود وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة أطفال ومسنين.
وجراء الحرب، نزح 2 مليون فلسطيني من منازلهم، حيث يعيشون حاليا في ظروف إنسانية صعبة، ويواجهون نقصًا كبيرًا في الوقود والأدوية وضروريات الحياة، إثر إغلاق الاحتلال للمعابر.
وتواصل إسرائيل الحرب متجاهلة قرارًا أمميًا يطالبها بوقفها فورًا، وأوامر من محكمة العدل لاتخاذ تدابير لمنع وقوع "إبادة جماعية" و"تحسين الوضع الإنساني"، وتتجاهل اعتزام المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعها يوآف جالانت.