شهدت أسواق النفط العالمية عامي 2023 و2024 تذبذبًا كبيرًا بين الارتفاع والانخفاض، نتيجة التداعيات السلبية للتوترات الجيوسياسية التي يشهدها العالم أجمع، إذ إن أسواق النفط تُعد مؤشرًا للأزمات التي تحدث في العالم، ومن المُتوقع بشكل كبير لهذا السوق طالما أن النفط مورد ناضب في الطبيعة، أن يشهد ارتفاعًا في الأسعار مع مرور الزمن، ولكن تمت مُلاحظة انخفاض أسعار النفط في بعض الفترات الأخيرة، وهو ما يستدعي البحث في سلوك هذا المورد الطبيعي المهم الذي يؤثر على النشاط الاقتصادي في مختلف الدول.
وتأسيسًا على ما سبق يتطرق هذا التحليل إلى المُحددات الأساسية لسوق النفط، بالإضافة إلى توضيح مؤشرات حالية ومُستقبلية للسوق العالمي.
محددات مهمة
هناك مجموعة من المُحددات التي تُحكم أسواق النفط، والتي يمكن توضيحها على النحو الآتي:
(*) مستوى النشاط الصناعي: ترتبط أسواق النفط العالمية وتحركات الأسعار بها بمستوى النشاط الصناعي داخل الدول، إذ إن ضعف النشاط الاقتصادي، خاصة في أوروبا، يؤدي إلى خفض الطلب على النفط، ومن هنا فقد أوضحت بيانات الإنتاج الصناعي ركودًا في الربع الأول من عام 2024، إذ تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 0.3% على أساس سنوي في فبراير وبنسبة 0.7% في شهر يناير، وهو ما يوضحه شكل (1)، الذي يُشير إلى انخفاض مستوى الإنتاج الصناعي بشكل كبير في عامي 2023 و2024 في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الناشئة والدول المتقدمة عن مستوياته في عام 2021، وهو الأمر الذي تسبب في موجات الانخفاض بأسعار النفط العالمية.
(*) التوترات الجيوسياسية: تؤثر التوترات العالمية والإقليمية بشكل كبير على سوق النفط العالمي، فعندما بدأت الأزمة الروسية الأوكرانية، ارتفعت أسعار النفط إلى ما يُقرب من 130 دولارًا للبرميل في الشهر التالي، كما توقعت وكالة الطاقة الدولية في ذلك الوقت خسائر قدرها 3 ملايين برميل يوميًا، وهو ما يُعادل ثلث إجمالي إنتاج روسيا، ونحو 3% من الإنتاج العالمي، ولكن التحول في توقعات السوق من مخاوف ندرة العرض والطلب المُتزايد إلى مخاوف بشأن تأخر الطلب وكثرة العرض، جعل أسعار العقود الآجلة للنفط تنخفض في أواخر عام 2023.
(*) النشاط الاقتصادي العالمي: يُعد النمو الاقتصادي هو أكبر العوامل التي تؤثر على طلب المنتجات البترولية، وبالتالي النفط الخام، فنمو الاقتصادات يعني طلبًا مرتفعًا على الطاقة بشكل عام، خاصة لنقل البضائع من المنتجين إلى المستهلكين، وعلى وجه الخصوص يؤثر النشاط الاقتصادي داخل الولايات المتحدة الأمريكية على أسواق النفط بشكل كبير، فقرارات أسعار الفائدة التي يتخذها الاحتياطي الفيدرالي وفقًا لمُعدلات التضخم السائدة، تؤثر على التوقعات المُستقبلية للعوائد المالية، وهو الأمر الذي يؤثر على أسعار العقود الآجلة للنفط الخام.
(*) الاحتياطيات النفطية: تُعد الاحتياطيات النفطية من القيود التي تُفرض على جانب العرض في النفط، إذ يُشير هذا المصطلح إلى كمية النفط التي يتم استخراجها فنيًا من جوف الأرض بتكلفة تُحدد بناءً على سعر النفط السائد في السوق، فكلما ارتفعت الاحتياطيات النفطية ارتفع حجم المعروض من النفط، الأمر الذي يُحقق الانخفاض في أسعار العقود الآجلة، وعلى هذا النحو تمتلك منظمة "أوبك" 79.5% من احتياطيات النفط الخام، ونتيجة أن هذه المنظمة تضم عددًا كبير من الدول العربية مثل العراق والسعودية وليبيا والجزائر، التي تتأثر بشدة من الأحداث في المنطقة الإقليمية العربية، خاصة الأحداث في البحر الأحمر والأحداث في غزة، يُمكن القول إن الاحتياطي النفطي سيشهد تقلُبات خلال الفترات المُقبلة، ما يُسبب عجزًا في المعروض من النفط.
مؤشرات محورية
يُمكن التعرف على الوضع الحالي والمُستقبلي لسوق النفط العالمي من خلال النقاط الآتية:
(&) التذبذب في مستوى الأسعار: شهدت سوق النفط تذبذبًا كبيرًا في الأسعار خلال عامي 2023 و2024، إذ يوضح شكل (2) أن سعر خام غرب تكساس انخفض من 88.462 دولار للبرميل في 29 سبتمبر 2023 إلى 76.108 دولار في 29 ديسمبر 2023، أي انخفض بنسبة 13.9%، وهو ما يرجع إلى الاضطرابات الجيوسياسية التي تفاقمت في هذا العام والتي سببت مخاوف حول مستويات إنتاج النفط العالمي، إذ خسرت العقود الآجلة لأسعار النفط أكثر من 10% على أساس سنوي، وفي عام 2024 عانت أسواق النفط تذبذبًا بين الارتفاع والانخفاض، وشهد شهر أبريل موجات كبيرة من هذا التذبذب، ففي الأسبوع الثاني من الشهر انخفضت أسعار النفط من أعلى مستوياتها التي سجلت 86.573 دولار للبرميل في 4 أبريل، لتُسجل82.252 دولار في 11 أبريل 2024، حتى بلغت 81.851 دولار للبرميل في نهاية الشهر، إذ تسببت عمليات البيع المُكثفة في انخفاض أسعار العقود الآجلة، في ظل البيانات الاقتصادية المُتضاربة بشأن خفض أسعار الفائدة وانتشار المخاوف بشأن إمدادات النفط والضغوط التضخمية.
وفي شهر مايو، سجل سعر خام غرب تكساس الوسيط 79.055 دولار للبرميل في 16 مايو 2024، وارتفع ليُسجل 79.404 دولار للبرميل في 20 مايو، ويرجع ارتفاع أسعار العقود الآجلة إلى الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام الإيرانية أنه "لا توجد علامة على الحياة" في موقع تحطم المروحية التي كانت تُقِل الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي"، إذ أثار هذا الحدث عدم اليقين بشأن المسار السياسي في دول رئيسية في إنتاج النفط، ومن هنا يتضح أن سوق النفط تتأثر بشكل كبير بالأحداث السياسية في الشرق الأوسط وفي دول العالم أجمع.
ومن ناحية أخرى، يُستدَل على التذبذب الكبير في أسعار النفط الخام بجميع أنواعه (خام غرب تكساس- خام بحر الشمال المؤرخ- سلة أوبك) من خلال شكل (3)، إذ يشير إلى سجل الارتفاع والانخفاض خلال فترة التحليل من أبريل 2023 إلى مايو 2024، خاصة أنها الفترة التي شهدت تقلبات سياسية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي خلق حالة من عدم اليقين بشأن اتجاهات السوق في المستقبل.
(&) حجم الطلب العالمي على النفط: يتسم الطلب على النفط بالاختلاف على المستوى الجغرافي كما يوضح شكل (4)، إذ بلغ نمو الطلب العالمي على النفط 2.2 مليون برميل يوميًا في الربع الأول من عام 2024، وارتفع الطلب العالمي على النفط في دول الأمريكتين التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بمقدار 217 ألف برميل يوميًا على أساس سنوي، مدعومًا بطلب الولايات المتحدة الأمريكية الذي ارتفع بمقدار 190 برميل يوميًا على أساس سنوي في فبراير 2024، الذي انخفض عن نمو قدره 440 برميل يوميًا في يناير 2024، ومن الناحية الأخرى انخفض الطلب على النفط في دول منظمة التعاون الاقتصادي في أوروبا بمقدار 180 ألف برميل يوميًا على أساس سنوي في فبراير 2024؛ بسبب ضعف نشاط التصنيع.
وعلى النقيض ارتفع الطلب الصيني على النفط بمقدار 834 ألف برميل على أساس سنوي في مارس 2024، وفي الهند ارتفع الطلب على النفط بمقدار 169 ألف برميل يوميًا على أساس سنوي، بينما ارتفع في الشرق الأوسط بمقدار 126 ألف برميل يوميًا.
وفي هذا الإطار تتوقع منظمة أوبك أن يشهد عام 2024 نموًا قويًا في الطلب على النفط بمقدار 2.25 مليون برميل يوميًا، فكما يوضح شكل (5) من المتوقع أن يرتفع الطلب على النفط من 103.3 مليون برميل يوميًا في الرُبع الأول من عام 2024 إلى 105.5 مليون برميل يوميًا في الرُبع الرابع من عام 2024، ويستمر الطلب في الارتفاع إلى 107.2 مليون برميل يوميًا في الرُبع الرابع من عام 2025، ويتفق ذلك مع توقعات بنك مورجان ستانلي الذي أوضح أن نمو الطلب على النفط الخام سيكون أقوى في نهاية عام 2024.
(&) حجم المعروض العالمي: يتحدد حجم العرض العالمي للنفط الخام بإنتاج الدول الأعضاء في منظمة الأوبك وإنتاج الدول خارج المنظمة، وتراجع الإنتاج العالمي من السوائل النفطية خلال شهر يناير 2024، وبلغ متوسط إمدادات النفط العالمية 101.8 مليون برميل يوميًا، بتسجيل انخفاض شهري قدره 0.6 مليون برميل يوميًا؛ نتيجة تراجع إنتاج الموردين من خارج منظمة الأوبك بنحو 0.2 مليون برميل يوميًا خلال شهر يناير الماضي، وبالإضافة إلى ذلك انخفض إنتاج أوبك، إذ بلغ إجمالي الإنتاج 26.5 مليون برميل يوميًا خلال الرُبع الأول من عام 2024 بالمُقارنة بـ26.6 مليون برميل يوميًا في الرُبع الرابع من عام 2023 كما يوضح شكل (6)، ويرجع ذلك إلى انخفاض الإنتاج في ليبيا والكويت والعراق والجزائر، فسجلت ليبيا انخفاضًا كبيرًا في حجم إنتاج النفط الخام يصل إلى 100 ألف برميل يوميًا؛ نتيجة تعليق الإنتاج في أكبر حقل نفطي في البلاد.
وعليه يُمكن القول، إن الاضطرابات التي تشهدها سوق النفط العالمي، خاصة في عام 2024، ترجع إلى تضافر مجموعة من العوامل التي تتعلق بالتوترات الجيوسياسية، وتراجع مستوى الإنتاج الصناعي في الدول الأوروبية، وضعف الإنتاج العالمي، وعدم اليقين بالنسبة للقرارات الاقتصادية التي سيتم اتخاذها في الاقتصاد العالمي، خاصة قرارات سعر الفائدة التي تؤثر على طلب النفط، إذ إن التخفيض المُتوقع لأسعار الفائدة يُقلل من تكلفة النفط للمُشترين الأجانب، ومن هنا فمع تزايد اضطرابات الشرق الأوسط واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، تزداد حالة التذبذب في سوق النفط العالمي، مع التوجه بشكل أكبر نحو الزخم الصعودي لأسعار النفط، وهو الأمر الذي يؤثر على الأنشطة الاقتصادية في مختلف الدول.