تحظى الانتخابات الأمريكية المقبلة بأهمية كبيرة بالنسبة لمختلف دول العالم، لما لنتيجة هذه الانتخابات من تداعيات مؤثرة وحاسمة على العديد من الملفات والقضايا الإقليمية والدولية. ويمكن القول إن منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي ربما ستكون الأكثر تأثرًا بنتيجة الانتخابات الأمريكية بحكم العامل الجغرافي، الذي من شأنه الارتباط الوثيق بين قضايا دول المنطقة والولايات المتحدة، وانعكاس توجهات الفائز في الانتخابات على طبيعة العلاقات الأمريكية اللاتينية، إلى جانب الأهمية القصوى لأصوات الناخبين الأمريكيين من أصول لاتينية بانتخابات نوفمبر 2024.
في هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات مثل: كيف يتم استخدام القضايا المتصلة بدول أمريكا اللاتنية في الانتخابات الأمريكية المقبلة؟ وكيف يمكن لهذه الدول التأثير في نتائج هذه الانتخابات؟ وكيف تتأثر تلك الدول بهذه النتائج؟.
قوة انتخابية مرجحة:
هناك قوى سياسية بعينها تمنح أغلبيتها أصواتها عادة لحزب دون آخر. ولذلك، فإن كل ما يسعى إليه المرشحان هو اجتذاب الناخب المستقل، وعدد قليل من الولايات غير المحسومة لأحدهما، فضلًا عن عدد محدود من القوى التصويتية التي ليس من الواضح لأيهما ستذهب أغلبيتها. وهو ما يضع الأمريكيين من أصل لاتيني على رأس القائمة. فقد أصبحوا قوة مهمة، سيحسب حسابها في الانتخابات المقبلة. والأمريكيون من أصول لاتينية، هم الذين هاجروا للولايات المتحدة من دول أمريكا اللاتينية والكاريبي. ويشكلون 19% من السكان، وما يقرب من 14% من الناخبين.
يمكن تحديد اتجاه تصويت الأمريكيين من أصل لاتيني، لصالح أحد المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية المقبلة "بايدن وترامب"، من خلال رصد وجهتي النظر التاليتين:
(*) الاتجاه التقليدي للأمريكيين من أصل لاتيني لتبني أفكار الحزب الديمقراطي، وبالتالي احتمال تصويتهم للرئيس الحالي والمرشح الرئاسي المحتمل جو بايدن: تنطلق وجهة النظر هذه من الصورة النمطية القديمة للأمريكيين من أصل لاتيني، التي لا ترى تلك الجماعة الإثنية إلا في العمالة الفقيرة بالزراعة والقطاع الخدمي. لذلك يضع الحزب الديمقراطي ومرشحه الرئاسي المحتمل؛ جو بايدن الأمريكيين من أصل لاتيني في صفوفه الانتخابية ليرجحوا كفة فوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويرجع ذلك إلى أن الأمريكيين من أصول لاتينية يحتلون مكانة متدنية في المجتمع الأمريكي، من حيث مستويات الفقر ونوعية الوظائف التي يحتلونها. وبالتالي أصبح الأمريكيون من أصل لاتيني أقرب تقليديًا لأفكار الحزب الديمقراطي لأنه الأكثر دعمًا للبرامج الاجتماعية التي تخدم القطاعات الفقيرة. ووفقًا لذلك من المحتمل أن تتجه أصوات الأمريكيين من أصل لاتيني لصالح المرشح الديمقراطي والرئيس الحالي جو بايدن.
(*) تغير المزاج الانتخابي للأمريكيين من أصل لاتيني في السنوات الأخيرة لصالح الحزب الجمهوري، وبالتالي احتمال تصويتهم للرئيس السابق والمرشح الرئاسي المحتمل دونالد ترامب: تستند وجهة النظر هذه إلى الأرقام الموثقة للمستوى الاقتصادي والاجتماعي للأمريكيين من أصل لاتيني، التي تشير إلى الانخفاض الأكبر للفقر بين أبنائها خلال العقدين الماضيين. وأصبح من غير الملائم تبني وجهة النظر التقليدية بشأن اتجاه تصويت تلك الجماعة وأن شأنها شأن باقي الأقليات، تدين تلقائيًا بالولاء للحزب الديمقراطي، باعتباره حزب الأقليات.
فمنذ انتخابات بوش الابن الثانية في 2004، صارت نسبة التصويت للجمهوريين بين الناخبين من أصول لاتينية في زيادة مطردة. وفي ذلك العام، فاز بوش بنحو 44% من أصواتهم. أكثر من ذلك، فإن ترامب، الذي طالما استخدم عبارات عنصرية ضد المهاجرين من أصول لاتينية، حصل في 2020 على 39% من أصواتهم.
وهناك مجموعة من الأولويات لدى تلك الجماعة الإثنية، تجعل نسبة كبيرة منهم تميل للحزب الجمهوري. فأغلبية الأمريكيين من أصول لاتينية قد تكون ليبرالية في مجال الاقتصاد، لكنهم محافظون في القضايا الاجتماعية، الأمر الذي يجعل المواقف المحافظة للحزب الجمهوري جاذبة لهم. وبينما يصور الإعلام تلك الجماعة بأنها لا بد وأنها تؤيد الهجرة والمهاجرين، كون المهاجرين يأتون من بلدانهم نفسها، فإن القراءة الواقعية تشير لمواقف مختلفة تمامًا. ومن يعملون منهم في الوظائف البسيطة، يرون أولئك المهاجرين الجدد تهديدًا لوظائفهم، بينما تعتبر الطبقة الوسطى منهم ممن يقطنون المدن، أن أولئك المهاجرين مسؤولون عن فوضى الشوارع وانعدام الأمن.
وتجدر الإشارة هنا إلى ميل الأمريكيين الكوبيين إلى التصويت للجمهوريين منذ ستينيات القرن الماضي، وهو ما يُمثّل حالة غير معتادة بين الناخبين الأمريكيين من أصول لاتينية، الذين يميلون في الغالب للتصويت للمرشحين الديمقراطيين، إذ فازت هيلاري كلينتون بنسبة 66% من أصوات الناخبين اللاتينيين عام 2016، في حين دعم باراك أوباما 67% من اللاتينيين عام 2008. وفي عام 2016، أيد واحد على الأقل من كل 5 ناخبين لاتينيين ترامب.
أسباب الاستدعاء:
تُعتبر قضايا أمريكا اللاتينية من القضايا الحاضرة بقوة داخل السباق الانتخابي الراهن في الولايات المتحدة، إذ يحاول كل من الرئيس الأمريكي الحالي والمرشح الرئاسي المحتمل جو بايدن، والرئيس الأمريكي السابق والمرشح الرئاسي المحتمل دونالد ترامب، توظيف القضايا المتصل بالدول اللاتنية التي تهم قطاعًا عريضًا من المواطنين الأمريكيين خاصة ممن ينحدرون من أصول لاتينية، لمساعدتهم في الفوز بالانتخابات المقبلة.
ومع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تجد دول أمريكا اللاتينية نفسها في خضم الحملات الرئاسية الأمريكية، كما أصبحت أحد مكونات الخطب الانتخابية والوعود المستقبلية لكل من المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية المقبلة؛ بايدن وترامب. وتحتل قضية الهجرة من أمريكا اللاتينية موقعًا محوريًّا في الانتخابات الأمريكية المقبلة، كما أنها - في الوقت نفسه - ذات أهمية كبيرة لدول أمريكا اللاتينية، خاصة دول أمريكا الوسطى، إضافة إلى أن قضايا العنف وتهريب المخدرات هي جزء أساسي من النقاش الانتخابي في الولايات المتحدة.
وحرص كل من الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب زيارة الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، مطلع مارس 2024. فقد سعى المرشحان الأكثر احتمالًا لمواجهة بعضهما بعضًا في انتخابات نوفمبر 2024، إلى إلقاء كل منهما اللوم على الطرف الآخر في عبور مئات الآلاف من المهاجرين بصور غير شرعية للحدود.
وفي استطلاع أجرته مؤسسة جالوب في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر فبراير 2024، أكد المستطلع آراؤهم أن قضية الهجرة أصبحت أهم مشكلة تواجه البلاد خلال الأشهر والسنوات الأخيرة الماضية. وبسبب تسييس قضية الهجرة من الحزبين، أخفق الكونجرس على مدار عقود في تمرير تشريع يقبل به الحزبان بشأن الهجرة وأمن الحدود. وبعد 3 سنوات من اتباع سياسة دفاعية في مواجهة هجمات الحزب الجمهوري، يرى الديمقراطيون الآن فرصة لتحويل اللوم على الجمهوريين لعدم تمرير صفقة مجلس الشيوخ.
وتأتي زيارة بايدن وترامب في وقت يشهد انخفاضًا في عدد المهاجرين الذين قُبض عليهم بين المعابر الحدودية الرسمية على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، بعد ارتفاع قياسي في ديسمبر الماضي، وألقى ضباط حرس الحدود القبض على ما يقرب من 250 ألف مهاجر، ديسمبر 2023، وانخفض هذا العدد بشكل حاد في يناير إلى نحو 124 ألفًا، بسبب برودة الطقس بصورة أساسية، ويتوقع أن تعاود أرقام المهاجرين في الارتفاع مع بدء فصل الربيع.
وبصفة عامة، عكست هذه الزيارة موقف كل من المرشحين اتجاه قضية الهجرة وتأمين الحدود، فقد استخدم كل منهما هذه القضية في الهجوم على الآخر، على النحو التالي:
(*) لوم بايدن على الجمهوريين في عرقلة اتفاق الحدود بين الحزبين في مجلس الشيوخ: اتجه الرئيس بايدن في زيارته للحدود إلى مدينة براونزفيل، إذ انخفضت أعداد المهاجرين الذين يدخلون إليها منذ بداية العام. وفي المقابل، وعلى مسافة تبعد 300 ميل من براونزفيل، زار ترامب منطقة إيجل باس، وهي أكثر المعابر كثافة من حيث أعداد المهاجرين العابرين للحدود الأمريكية بصور غير شرعية. والتقى بايدن، الذي قام بزيارته الثانية إلى الحدود خلال سنوات حكمه، ضباط حرس الحدود وإنفاذ القانون والقادة المحليين الحدود في براونزفيل على الحدود مع المكسيك، وألقى باللوم على الجمهوريين في عرقلة اتفاق الحدود بين الحزبين في مجلس الشيوخ، الذي كان سيسمح للحكومة بطرد المهاجرين إذا تجاوزت عمليات العبور يوميًا 4 آلاف مهاجر. وبعد أشهر من المفاوضات، قال الجمهوريون في نهاية المطاف إن الشروط لم تذهب بعيدًا بما فيه الكفاية وتأتي هذه الزيارة، في إطار جهود الديمقراطيين للتركيز بشكل أكبر على الهجرة، التي تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أنها أصبحت أولوية قصوى للناخبين.
وجاءت زيارة بايدن قبل أسبوع من إلقائه خطاب حالة الاتحاد، 7 مارس الحالي، وفي الوقت الذي يدرس فيه البيت الأبيض التدابير الأحادية الجانب التي يمكنه اتخاذها لوقف عبور المهاجرين غير الشرعيين للحدود. ومن بين الأفكار المطروحة: منع المهاجرين الذين يعبرون الحدود بشكل غير قانوني من طلب اللجوء، ما يسمح بترحيلهم بسرعة إلى المكسيك أو بلدانهم الأصلية.
(*) استخدام ترامب خطابه الاعتيادي المناوئ للمهاجرين الذي استخدمه في حملات ترشحه السابقة: سعى ترامب إلى فرض حظر عبور المهاجرين غير الشرعيين للحدود في 2018، لكن محكمة اتحادية منعته وقالت إنه انتهاك لقوانين اللجوء، التي تسمح للناس بطلب الحماية الإنسانية بغض الطرف عن كيفية دخولهم البلاد.
وخلال زيارته للحدود، ألقى ترامب كلمة في حديقة شيبلي بارك، التي أصبحت نقطة ساخنة في مواجهة ولاية تكساس مع الحكومة الفدرالية، إذ هاجم بايدن، وانتقد تعامله مع قضية الحدود، وربط تدفق المهاجرين بالجريمة. وقال الرئيس الأمريكي السابق إن "هؤلاء هم الأشخاص الذين يأتون إلى بلدنا، وهم يأتون من السجون ويأتون من المصحات العقلية وبعضهم إرهابيون، يُقتادون إلى بلادنا. وهذا أمر فظيع". ولم تختلف لهجة ترامب هذه عن خطابه الاعتيادي المناوئ للمهاجرين الذي استخدمه في حملات ترشحه في 2016 و2020. وامتدح ترامب حاكم ولاية تكساس الجمهوري جريج أبوت الذي يتهم إدارة بايدن بالإخفاق في تأمين الحدود، ويجادل أن الدستور الأمريكي يمنحهم حق "الدفاع عن النفس" للحماية من "الغزو" في هذه الحالة هم المهاجرون.
فقد أصبحت الهجرة هي القضية الانتخابية التي سيحاول ترامب والجمهوريون التركيز عليها في أذهان الناخبين، فقد تجاوز عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين دخلوا الولايات المتحدة من المكسيك في ديسمبر 2023، نحو 302 ألف شخص، مسجلًا رقمًا قياسيًا تاريخيًا مطلقًا، وتم ضبط 200 ألف مهاجر على الحدود في ديسمبر الماضي.. فقد أدى هذا التدفق الهائل للمهاجرين وطالبي اللجوء غير الشرعيين في بعض الأحيان إلى إرباك مرافق المعالجة الحكومية وإرهاق برامج الخدمة الاجتماعية في المدن الكبرى التي تبعد آلاف الأميال.
وتظهر استطلاعات الرأي أن الهجرة هي القضية الأهم بالنسبة لكثير من قاعدة ناخبي ترامب، ومصدر ضعف للرئيس الحالي، وانقسام بين الديمقراطيين. وأثبتت الجهود المبذولة لمعالجة المشكلة في الكونجرس عدم نجاحها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن ترامب كان يضغط على الجمهوريين لمنع التشريعات التوفيقية إلى ما بعد الانتخابات.
ترقب دول أمريكا اللاتينية
تترقب دول أمريكا اللاتينية نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة لما قد يترتب على هذه الانتخابات من استمرارية أو تغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة. ففوز ترامب قد لا يصب في مصلحة هذه الدول، وذلك يرجع إلى استخدامه استراتيجية حازمة تجاه أمريكا اللاتينية غلب عليها التهديدات وفرض العقوبات. فقد ركز ترامب على قضايا معينة تعكس النهج الأحادي لإدارته، وعلى الأخص المحاولات الفاشلة للإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وإلغاء تطبيع الرئيس السابق باراك أوباما للعلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا. كما أوقف ترامب المساعدات الأمريكية لدول أمريكا الوسطى.
وعلى الجانب الآخر، حاول الرئيس الأمريكي جو بايدن، ترميم العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية التي أفسدتها قرارات وإجراءات اتخذتها الإدارة الأمريكية السابقة. فقد صوّت العديد من الأمريكيين من أصل لاتيني لجو بايدن الانتخابات الأمريكية 2020، إذ ذهب اثنان من كل ثلاث أوراق اقتراع من ناخبي أمريكا اللاتينية في هذه الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة إلى جو بايدن، بصفته نائب رئيس باراك أوباما، إذ كان بايدن الرجل المسؤول عن أمريكا اللاتينية، أملًا منهم في نجاح بايدن بحل الأزمات القائمة والتي تفاقمت في عهد الإدارة السابقة.
ويسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى التقارب مع دول أمريكا اللاتنية، فقد دعا هذه الدول في نوفمبر 2023، إلى اختيار الاستثمارات الأمريكية الديمقراطية والشفافة بدلًا من سياسة "دبلوماسية فخ الديون" الصينية خلال استضافته لمسؤولين وممثلي 11 دولة من منطقة شقّت فيها بكين طريقًا لها. ومع تراجع شعبية اتفاقيات التجارة الحرة في واشنطن، يعمل بايدن على الترويج لـ"شراكة الأمريكيتين من أجل الرخاء الاقتصادي"، وهو إطار عمل يركّز على تشجيع الأعمال التجارية وإعادة توجيه سلاسل التوريد بعيدًا من الصين.
إجمالا، يمكن القول إن هناك أهمية متبادلة بين الانتخابات الأمريكية المقبلة، وأمريكا اللاتينية. فأمريكا اللاتينية تحظى بأهمية خاصة بالنسبة لهذه الانتخابات، في ظل استدعاء المرشحين "بايدن وترامب" في الانتخابات للقضايا المتصلة بالدول اللاتنية خاصة الهجرة في سباقهما الانتخابي من ناحية، وثقل الوزن النسبي للأمريكيين اللاتينيين، الذي قد يجعلهم يشكلون عنصرًا حاسمًا في الانتخابات الرئاسة الأمريكية 2024 من ناحية أخرى.