الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

رسائل زيارة بوتين إلى الصين

  • مشاركة :
post-title
الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينج

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

جاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين فى الفترة من 16 إلى 17 مايو 2024، الأولى له منذ إعادة انتخابه لولاية رئاسية خامسة مدتها ست سنوات جديدة الانتخابات الرئاسية الروسية التي جرت في مارس 2024، كما كانت روسيا أيضًا هى أول دولة زارها الرئيس الصيني شى جين بينج بعد إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثالثة جديدة مدتها خمس سنوات في مارس 2023. الأمر الذى يعكس أولوية إدراك أهمية كل دولة للأخرى، لا سيما بعد أن وصلت التجارة الثنائية بين الصين وروسيا إلى مستوى قياسي بلغ ما يقرب من 240 مليار دولار فى عام 2023، في حين أنه بلغ عام 2020 ما يقرب من 108 مليارات دولار، وهو ما يعود لزيادة كبيرة فى الواردات الصينية من النفط الروسي بعد أن تبنت روسيا استراتيجية أنبوب الشرق لضخ النفط إلى الصين والهند بدلًا من تصديرها للطاقة إلى أوروبا التى كانت تعتمد على 40% من استهلاكها على الغاز الروسي القادم إليه عبر خطي نورد ستريم 1، 2 قبل أن يتوقف ضخهما بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كما تنامت الواردات الروسية من الصين التى تتنوع مجالاتها ما بين السيارات الكهربائية، والإلكترونيات والمعدات الصناعية.

وتتزامن الزيارة مع مرور75 عامًا على إقامة العلاقات البلوماسية بين البلدين، لذلك جاء تمثيل الوفد المرافق للرئيس بوتين فى الزيارة ، ليعكس الاتجاه نحو تمتين العلاقات الروسية الصينية، إذ رافقه نواب رئيس الوزراء وحكام 20 مقاطعة روسية ومديري شركات السكك الحديدية ووكالة وروساتوم وغيرها.

رسائل متنوعة

تعكس الزيارة العديد من الرسائل التي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:

(*) تعزيز ركائز الشراكة الاستراتيجية: تعكس الزيارة فى أحد جوانبها رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعزيز الشراكة الاستراتيجية، التى وضعت ركائزها خلال لقاء قمة له مع الرئيس الصيني شى جين بينج فى 4 فبراير 2022، وذلك على هامش مشاركتهما فى انطلاق فعاليات دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، وصدر عن القمة بيان اعتبر أن إعلان الشراكة الصينية الروسية يمثل بداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية، وأن علاقات بكين وموسكو تفوق أي تحالف سياسي أو عسكري في زمن الحرب البادرة، وأن الشراكة بين الدولتين ليس لها حدود، وتشتمل على عدة جبهات من بينها الطاقة والفضاء وتغير المناخ، والذكاء الاصطناعي والتحكم في الإنترنت.

كما عبّر البيان عن قلق الدولتين من خطط واشنطن لتطوير نظام الدفاع الصاروخي العالمي، ونشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، داعيًا كل القوى النووية إلى التخلي عن عقلية الحرب الباردة، وتقليص الاعتماد على ترسانتها النووية في سياساتها الأمنية، وسحب جميع أسلحتها النووية المنتشرة خارج حدودها.

ويبدو أن زيارة بوتين للصين تبنت النهج القائم نفسه على توثيق العلاقات الروسية الصينية لتعزيز ركائز الشراكة بين البلدين، ومواجهة التحديات المشتركة التى وصفها بيان صادر عن قمة الرئيسين (بوتين وشي) التى عُقدت فى17 مايو 2024 بأن العلاقة بين البلدين تجاوزت نموذج التحالف العسكري السياسي في حقبة الحرب الباردة، وأنها في أفضل مستوى فى التاريخ، وأكد الرئيسان بأن الصين وروسيا مصممتان على الدفاع عن حقوقهما ومصالحهما المشروعة، ومقاومة أي محاولات لعرقلة التطور الطبيعي للعلاقات الثنائية، والتدخل في الشؤون الخارجية بين البلدين، كما وضع الرئيسان أرضية مشتركة بشأن مصالحهما السياسية، إذ أدانت الصين بشدة الهجوم الإرهابي الذى وقع في 22 مارس 2024 بقاعة الحفلات الموسيقية في موسكو، وأنه تدعم جهود روسيا في مكافحة الإرهاب والتطرف. في المقابل أكدت موسكو مجددًا اعترافها بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، وتعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال، وتدعم بقوة تصرفات الصين لحماية سيادتها وسلامة أراضيها ووحدة البلاد.

(*) إرساء مبدأ عالم متعدد الأقطاب: يتبنى الرئيسان (بوتين وشي) إرساء مبدأ عالم متعدد الأقطاب يعزّز من المصالح الاستراتيجية للبلدين ، ويضع فى الاعتبار ترجمة مقومات القوة الشاملة فى إطار توازنات النظام الدولي الجديد. وهو الأمر الذى عبّر عنه الرئيس الروسي بوتين خلال لقائه بالرئيس الصيني "شي" على هامش قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون، في مدينة سمرقند بأوزبكستان في منتصف سبتمبر 2022، بأن التوافق بين موسكو وبكين يلعب دورًا رئيسيًا في ضمان الاستقرار العالمي والإقليمي، معتبرًا أن البلدين يدافعان بشكل مشترك عن تشكيل عالم عادل وديمقراطي ومتعدد الاقطاب على أساس القانون الدولي والدور المركزي للأمم المتحدة، وليس على بعض القواعد التي توصل إليها طرف ما يحاول فرضها على الآخرين دون توضيح ماهيتها.

مشيرًا إلى أن محاولات إنشاء عالم أحادي القطبية اتخذت أخيرًا شكلًا قبيحًا وغير مقبول على الإطلاق بالنسبة للغالبية العظمى من الدول على هذا الكوكب، فيما أشار الرئيس الصيني إلى أنه على استعداد مع زملائه الروس لضرب مثالًا لقوة عالمية مسؤولة قادرة أن تلعب دورًا رائدًا لإحداث تغيير سريع في العالم من أجل إعادته إلى مسار التنمية المستدامة والإيجابية.

كانت تلك الرسالة على أجندة لقاء بوتين وشي فى بكين، اللذان أكدا من جديد على رؤيتهما المشتركة لنظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تستطيع الدول بقيادة الصين وروسيا أن تعمل وفقًا لمجموعة مختلفة من لقواعد عن تلك التي وضعتها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات الليبرالية، مطالبين بضرورة إرساء عالم متعدد الأقطاب مع ضرورة إعادة توزيع الموارد والفرص على الأسواق الناشئة والبلدان النامية، باعتبارهما قوتين مستقلتين في عملية بناء عالم متعدد الأقطاب، وأن الصين وروسيا سوف تستغلان إمكانات علاقاتهما بالكامل، وتعززان تحقيق عالم متعدد الأقطاب وإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية بطريقة عادلة ومنظمة، وتوحيد جهودهما من أجل تحقيق ذلك.

(*) تدشين جبهة موحدة لمواجهة الضغوط الأمريكية: تمثل الضغوط الأمريكية التحدى المشترك الذى يواجه الصعود الصيني ، واستعادة الصعود الروسي، وهى الرسالة التى تجد صداها فى مواقف الرئيسين شى وبوتين، حيث تعهدا بالعمل معًا لمواجهة ما وصفوه بالضغوط الأامريكية المدمرة والعدائية، وإظهار الدعم لبعضهما البعض، والعمل كجبهة موحدة، وأن كل دولة هي شريك ذو أولوية للطرف الآخر.

ووجّه الرئيسان انتقادات حادة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والقوا باللوم عليها في كل شىء، بدءًا من توسيع الردع النووي مع حلفائها بما في ذلك أستراليا، إلى تطوير أسلحة غير نووية عالية الدقة، والصعوبات الاقتصادية في أفغانستان، والترهيب والاستفزاز الذي تتعرض له كوريا الشمالية، معتبرين أن الولايات المتحدة لا تزال تفكر من منظور الحرب الباردة وتسترشد بمنطق المواجهة بين الكتل، وتضع أمن المجموعات الضيقة فوق الأمن والاستقرار الإقليميين، ما يخلق تهديدًا أمنيًا لجميع دول المنطقة، وعليها أن تتخلي عن هذا السلوك.

(*) حماية مناطق النفوذ: تسعى الصين وروسيا عبر تعزيز علاقاتهما المشتركة إلى حماية مناطق نفوذهما من التهديدات الغربية والأمريكية تحديدًا، فالحرب الروسية الأوكرانية يعتبرها الرئيس الروسي بوتين دفاعًا عن أمن روسيا القومى وحماية تخومها من خلال رفض تمدد حلف الناتو إلى تلك المناطق. وربما يمثل أحد الأهداف الرئيسية للعملية الروسية في أوكرانيا ارتباطًا بذلك الهدف الاستراتيجى.

أما الصين فتنطلق من فكرة الصعود المتأنى للوصول إلى قمة النظام الدولي حتى لا تصطدم بالقوة الغربية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لارتفاع تكلفة الصدام وتعزيز إدارة التنافس، لذلك ترفض سعى الولايات المتحدة للهيمنة على تفاعلات منطقة الإندوباسيفيك واستكارها للتحالفات الجديدة الرامية لتطويق النفوذ الصينى فى تلك المنطقة الحيوية وأبرزها تحالف أوكوس بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وإعادة تفعيل تحالف كواد بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والهند واليابان.

مجمل القول: إن اختيار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الصين لتكون أول وجهة خارجية له بعد أدائه اليمين الدستورية لولاية رئاسية خامسة، تجعلها رسالة روسية موجهة للعالم تؤكد أولوية وعمق العلاقات الصينية الروسية، والاتجاه نحو تمتينها بما يسهم فى إرساء عالم متعدد الأقطاب بديلًا لنظام دولي أحادي القطبية سبق أن وصفه بوتين بأنه بات بطبيعته عائقًا أمام تطور الحضارة، وأن النموذج الغربي في إدارة العالم قام على نهب ثروات الشعوب وفشل في تقديم بدائل للنظام الدولي، وأن المواجهة القائمة مع الغرب ليست مرتبطة فقط بالوضع حول أوكرانيا، وإنما هي صراع بين نموذجين لإدارة العالم.