تناول لقاء الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، بمنتجع سوتشي يوم الاثنين 4 سبتمبر 2023، عددًا من الملفات المشتركة بين موسكو وأنقرة، وعلى رأسها إحياء صفقة حبوب البحر الأسود أو خلق مسار بديل لها، وتعزيز التعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والتجارة والسياحة، فضلًا عن جهود حل الأزمة السورية من خلال مسار آستانا.
ويُشير اللقاء إلى أهمية العلاقات الثنائية، رغم التناقضات التي تحملها الالتزامات الأمنية والسياسية طويلة الأمد لكلا الطرفين، خاصة الجانب التركي والذي ينضوي تحت مظلة التحالف الغربي أمنيًا من خلال حلف شمال الأطلسي "الناتو"، إلا أن الملف الاقتصادي وأمن الطاقة ظل محفزًا للتقارب التركي الروسي، في ظل تشابك دور البلدين في الملفات الإقليمية.
أهمية محورية:
سبقت زيارة الرئيس التركي لسوتشي لقاء وزيري الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، ونظيره التركي، هاكان فيدان، في 31 أغسطس الماضي بموسكو، تناولا خلاله التحضير لقمة الزعيمين وملفات الزيارة والتي يمكن استعراضها على النحو الآتي:
(*) مبادرة الحبوب: كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن مبادرة بديلة لمبادرة حبوب البحر الأسود، بالتعاون مع كل من تركيا وقطر، لتوريد نحو مليون طن من الحبوب لصالح الدول الإفريقية، في محاولة لتخفيف الضغوط الإنسانية والدولية من نقص الغذاء عالميًا؛ جراء الانسحاب من الاتفاق السابق. وتضمنت تصريحات الزعيمين انتقادًا لتوزيع حصص الحبوب الأوكرانية لخدمة الدول الغربية، إذ أشار بوتين إلى أن 70% من الحبوب ذهبت لصالح دول الاتحاد الأوروبي، بينما يشير مركز التنسيق المشترك إلى أن حصص دول أوروبا الغربية نحو 40%.
وكانت تركيا ثالث أكبر مستفيد من صفقة الحبوب 3,236 مليون طن متري، بعد الصين 7,963 مليون طن وإسبانيا 5,98 مليون طن، وترغب في تعزيز موقعها كمركز لتصدير الحبوب بالتعاون مع روسيا وأكرانيا بقيمة 100 مليون طن سنويًا، حسب تصريحات أردوغان التي حث فيها أوكرانيا على إبداء مرونة تفاوضية مع روسيا؛ من أجل العودة لاتفاق الحبوب والمتوقف نتيجة لرفض مطالب موسكو في ربط البنك الزراعي الروسي بمنظومة سويفت البنكية الدولية، ورفض حظر تصدير قطع غيار المعدات الزراعية لروسيا، إلى جانب تشغيل خط أنابيب "تولياتي-أوديسا" الذي ينقل نحو 2,5 مليون طن من الأمونيا الروسية المستخدمة في صناعة الأسمدة الزراعية.
(*) التعاون في مجال الطاقة: تمثل موارد الطاقة الروسية شريان حياة للاقتصاد التركي، وأحد أبرز أسباب التوازن الحرج التركي بين الغرب وروسيا، إذ أظهرت بيانات رسمية تركية حديثة أن أنقرة تستورد نحو 30% من إجمالي احتياجاتها من الغاز الطبيعي من خلال روسيا بواقع 707,5 مليون متر مكعب من إجمالي 2,33 مليار متر مكعب في شهر يونيو 2023، كثاني أكبر مورد للغاز إلى السوق التركي (رغم التراجع) بعد أذربيجان التي سجلت 743,6 مليون متر مكعب.
وفي مايو 2023، بلغ إجمالي قيمة المدفوعات المؤجلة لمبيعات الغاز الروسي عام 2024، نحو 4 مليارات دولار، بعد موافقة "غازبروم" على تأجل دفعة جديدة بقيمة 600 مليون دولار، حسب وكالة "رويترز".
كما يرغب البلدان في استثمار بنية نقل الغاز الطبيعي لجعل تركيا مركزًا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا بديلًا عن أوكرانيا، من خلال خط السيل التركي الذي يغطي عبر أنبوبين بحريين بطول 930 كم، وأنبوبين بريين بطول 142 كم و70 كم احتياجات الاستهلاك المحلي (15,75 مليار متر مكعب) إلى جانب التصدير إلى دول أوروبية مثل المجر وصربيا، وتبلغ سعته الإجمالية 31,5 مليار متر مكعب سنويًا، حسب وسائل إعلام تركية (دايلي صباح).
وفي ظل المخاوف من الهجوم على البنية التحتية البحرية لنقل الغاز الروسي، يأمل البلدان في توسيع التعاون عبر خط السيل الأزرق "بلو ستريم" الذي يمر شرقي البحر الأسود بين المياه الإقليمية لكلا البلدين، وصولًا للبر التركي على بعد 700 كم من مضيق البسفور، وتزداد أهمية الخط بعد اتهام الرئيس بوتين لأوكرانيا بمحاولة تدمير خط السيل التركي.
وعلى صعيد التعاون في مجال الطاقة النووية استقبلت تركيا الشحنة الأولى للوقود النووي في 27 أبريل الماضي؛ لبدء التشغيل التجريبي لمحطة أكويو النووية التي تبنيها روسيا بطاقة إجمالية 1800 ميجاوات، ومن المنتظر بدء تشغيلها في العام المقبل، على أن يكتمل تشغيلها الكامل بحلول 2028، وستوفر المحطة نحو 10% من استهلاك الكهرباء في تركيا، وتقلص فاتورة استيراد الغاز بنحو 1,5 مليار دولار سنويًا. وبحسب الرئيس التركي، فإن الجانبين بحثا إنشاء محطة طاقة نووية جديدة في مدينة سينوب على ساحل البحر المتوسط جنوبي تركيا.
(*) العلاقات الثنائية: تناولت المباحثات بين الجانبين تعزيز حركة السياحة الروسية بتركيا والتي بلغت نحو 5 ملايين سائح في العام الماضي 2022، فضلًا عن اعتماد التبادل بالعملات الوطنية، وتعزيز التبادل التجاري من 62 مليار دولار خلال العام الجاري، وصولًا إلى 100 مليار دولار مستقبلًا.
ورغم ضغوط الولايات المتحدة ومجموعة السبع إلا أن تركيا تظل أحد أهم شركاء روسيا التجاريين، عبر صادرات الأجهزة الإلكترونية ومكوناتها مزدوجة الاستخدام مثل الرقائق الإلكترونية، والتي قد تدعم المجهود الحربي الروسي، وبحسب المجلس الأطلسي، زادت الصادرات الإلكترونية التركية إلى روسيا خلال الفترة من مارس 2022 إلى مارس 2023 بنسبة 85%.
وجاءت روسيا كأكبر شريك تجاري لتركيا في 2023، حيث بلغت قيمة الواردات من موسكو خلال النصف الأول 27,4 مليار دولار، حسبما نقلت وكالة تاس عن المعهد الإحصائي التركي، رغم انخفاض نسبة الواردات بنحو 10% عن ذات الفترة من العام الماضي.
(*) الملفات الإقليمية المشتركة: احتلت الأزمتان الروسية الأوكرانية والسورية جانبًا من المباحثات، وبينما ساد توافق عام حول احترام وحدة وسلامة الأراضي السورية وبناء توافق وطني وفق مسار آستانا الذي عقدت جولته الأخيرة في العاصمة الكازاخية يونيو الماضي بحضور ممثلين عن الحكومة والمعارضة السورية، إلى جانب وفود روسيا وتركيا وإيران، إلا أن الموقف من أوكرانيا كان أقل انسجامًا وإن لم يخرج عن إطار الاعتراض الصامت.
ورغم الإشادة الروسية بدور تركيا في إحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا، فإن سياسة التوازن التي تتبعها أنقرة كانت محل صراع روسي أوكراني، فبينما عبر الرئيس التركي عن دعمه لعضوية أوكرانيا في حلف الناتو خلال زيارة زيلينسكي لتركيا بالتوازي مع الاعتماد على الغاز الروسي والرغبة في التحول إلى مركز لتصديره إلى أوروبا بديلًا عن أوكرانيا التي كانت وجيرانها الأوروبيون يتحوطون بعبور النفط والغاز الروسيين عبر أراضيها، لمنع اندلاع مواجهة عسكرية مع روسيا، إلا أن كلا الطرفين فيما يبدو يسعيان لتقويض تلك المعادلة.
وخلال لقاء الاثنين أعاد الرئيس الروسي اتهامه لأوكرانيا بمحاولة تدمير خط السيل التركي، في إشارة لإعلان الأمن الفيدرالي الروسي في نوفمبر 2022، القبض على مجموعة تخريبية "تتبع الاستخبارات الأوكرانية" لتدمير الخط في منطقة فولجوجراد الروسية. وفي المقابل استهدف هجوم روسي واسع بالصواريخ والطائرات المسيرة في 6 أغسطس الماضي، شركة موتور سيتش الأوكرانية في زابوريجيا المصنعة لمحركات الطائرات والمروحيات، وأحد أبرز موردي شركات بيكار التركية المنتجة للمسيرات من طراز بيراقدار تي بي 2 وغيرها من الطرازات.
وإجمالًا؛تُشير معطيات التعاون الاقتصادي والتكنولوجي في العلاقات التركية الروسية إلى أولوية العلاقات المشتركة بين البلدين؛ لضمان أمن مصالحهما في البحر الأسود، وهو ما يصب في مصلحة موسكو بصورة أكبر نتيجة لانكشاف أمن الطاقة التركية ومحاذير أنقرة الدائمة على مصالحها الاستراتيجية في البحر الأسود، كلما اشتد الصراع، فضلًا عن احتياجاتها من الحبوب والتي تأثرت بانسحاب روسيا من مبادرة البحر الأسود. ومن ثم يبدو أن المصلحة الأولى لتركيا تخفيف حدة الاستقطاب في البحر الأسود وممارسة دور الميسر الرئيسي لمفاوضات موسكو وكييف بأسرع وقت قبل أن تتداعى معادلة التوازن التركي على وقع الضغوط الغربية والرسائل الخشنة والخفية من روسيا وأوكرانيا، والتي تهدد المصالح التركية على صعيد الطاقة والغذاء والصناعات الدفاعية.