لم تمض سوى أسابيع قليلة على عودة العلاقات السعودية الإيرانية؛ حتى عادت المواجهات مجددًا بين أمريكا وقوات تابعة لطهران في شرق سوريا، إذ شنت المقاتلات الحربية الأمريكية، بتوجيه من الرئيس "جو بايدن"، فجر 24 مارس 2023، سلسلة من الغارات الجوية، ضد مواقع قالت إنها تابعة للحرس الثوري الإيراني وميليشيا موالية لإيران في بادية البوكمال شرقي دير الزور السورية، وهي الهجمات التي جاءت ردًا على تعرض قاعدة للتحالف الدولي بقيادة أمريكا في شمال شرق سوريا لهجوم بطائرة مسيرة إيرانية الصنع، في 23 مارس الجاري، مما أسفر عن مقتل متعاقد أمريكي وإصابة ستة جنود أمريكيين، وفقًا لما أعلنه وزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستن".
ردود الفعل:
أثارت تلك الهجمات ردود فعل جميع الأطراف فيها، حيث ستكشف هذه الردود عن الملامح التي ستشهدها الفترة المقبلة بين أمريكا وقوات مقاتلة تابعة لطهران في الأراضي السورية، وذلك على النحو التالي:
(*) اعتراف فصيل إيراني باستهداف القاعدة الأمريكية: بعد يومين من استهداف القاعدة الأمريكية خرج فصيل يطلق على نفسه اسم "لواء الغالبون" في 26 مارس الجاري، ليعلن في كلمة له مرفقة بتسجيل مصور يظهر لحظة الهجوم على حسابه الرسمي بموقع "تيلجرام" مسؤوليته عن الهجوم على قاعدة التحالف في شمال شرق سوريا، ومشددًا على أن هذا الهجوم هو "رد طبيعي" على التدخلات الأمريكية في المنطقة بشكل عام وعلى استهدافها خاصة لقادة النصر (لم يسمهم إلا أن إيران سبق وأطلقت هذا المسمى على قائد فيلق القدس الإيراني "قاسم سليماني" ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي "أبو مهدي المهندس" اللذان قتلا في غارة أمريكية بالقرب من مطار بغداد، مطلع 2021)، ومعلنًا عن مزيد من الهجمات المرتقبة ضد القوات الأمريكية في الأراضي السورية والعراقية وخارجها وبأسلحة أكثر تطورًا، للضغط على واشنطن لسحب كامل قواتها من المنطقة.
(*) أوامر أمريكية بشن غارات جوية على منشآت إيران في سوريا: دفع استهداف القاعدة العسكرية الأمريكية، الرئيس "بايدن" إلى إطلاق أوامر إلى المسؤولين بوزارة الدفاع الأمريكية بشن سلسلة من الغارات الجوية على المنشآت التابعة للحرس الثوري الإيراني وميليشيا طهران في الأراضي السورية، وهو الأمر الذي تمت الاستجابة له على الفور، إذ أعلن الجنرال "بات رايدر" المتحدث باسم البنتاجون عن تنفيذ القوات الأمريكية ضربتين عبر مقاتلة أمريكية من طراز "إف-١٥ إي" استهدفت منشأتين تابعتين للحرس الإيراني بالقرب من منطقة دير الزور شرق سوريا، وبعد الرد الأمريكي أطلق "بايدن" تحذيرًا بشن المزيد من الهجمات إذ تم استهداف قوات بلاده في سوريا، وفي الوقت ذاته، علق المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض "جون كيربي" في 24 مارس 2023 خلال لقاء له مع شبكة "سي.إن.إن" الإخبارية الأمريكية، على أعمال التصعيد، قائلًا، "الضربات الأمريكية في سوريا تهدف إلى حماية الجنود الأمريكيين هناك، ولا يزال تنظيم "داعش" الإرهابي والجماعات المسلحة المدعومة من إيران يشكلون تهديدًا"، مضيفًا "واشنطن لا تريد صراعًا من طهران لذلك لا ينبغي لإيران المشاركة في دعم الهجمات على المنشآت الأمريكية بسوريا".
(*) تحذير إيراني شديد اللهجة إلى واشنطن: بعد التحذيرات التي أطلقها "بايدن" ومسؤولي الإدارة الأمريكية إلى النظام الإيراني، خرج المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني "كيوان خسروي" في تصريحات لوكالة "نور نيوز" الإخبارية الإيرانية في 25 مارس 2023، ليحذر هو الآخر واشنطن من أي أعمال تصعيدية بالأراضي السورية، قائلًا، "أي هجمات على القواعد الإيرانية في سوريا التي تم إنشاؤها بناءً على طلب الحكومة السورية للتصدي للإرهاب سيُقابل برد مضاد وحاسم، وأفاد أن أمريكا تسعى من خلال هجماتها تلك إلى توجيه اتهامات لإيران ليس لها أي أساس من الصحة من خلال خلق أزمات مفبركة ومصطنعة، على حد قوله.
دلالات التوقيت:
رغم أن أعمال التصعيد بين أمريكا والقوات التابعة لإيران في الأراضي السورية ليست بمثابة حدث جديد، بل متكرر بشكل دائم، إلا أن أهميته تعكسها ما تشهده الساحتين الدولية والإقليمية من تطورات تبرز أسباب عودة التصعيد في هذا التوقيت، منها ما يلي:
(&) إعلان عودة العلاقات السعودية الإيرانية برعاية صينية: لم يمر سوى أسبوعين على إعلان الصين عن نجاح اتفاق بين طهران والرياض في 10 مارس 2023، قضى بإعادة العلاقات بين البلدين بعد قطيعة بينهم دامت سبع سنوات، وفي الوقت الذي ظهرت فيه تكهنات عدة عن تأثير هذا الاتفاق بالإيجاب على الأزمة السورية التي دخلت عامها الثاني عشر، عاد التصعيد بين أمريكا والميليشيا التابعة لطهران في الأراضي السورية، وقد تكون الأخيرة خاصة أنها من بدأت بالتصعيد لإيصال رسالة لأمريكا مفادها أن تعمل بمعزل عن إيران وتصدر قراراتها من نفسها، وأنها لن تتراجع عن هدفها المتمثل في الضغط على واشنطن لسحب قواتها من سوريا، وقد يكون إعلان "لواء الغالبون" مسؤوليته عن الهجوم، محاولة لـ"حفظ ماء وجه" إيران أمام دول المنطقة بعد عودة العلاقات مع السعودية، وانفتاح بعض الدول على طهران، وفي الوقت ذاته إبعاد اتهامات واشنطن للحرس الثوري الإيراني باستهداف القاعدة العسكرية الأمريكية في دير الزور، أما على الجانب الآخر، فإن الرد الأمريكي بهذه الطريقة قد يكون تعبيرا عن غضب واشنطن من نجاح بكين في إعادة العلاقات بين طهران والرياض وتخوف "بايدن" من أن يؤدي ذلك لتراجع نفوذ بلاده في المنطقة.
(&) جهود إقليمية لحلحلة الأزمة السورية: وقعت هذه الهجمات في وقت تعمل فيه دول إقليمية ودولية على إيجاد حل للأزمة السورية، فمن جهة تواصل دولة الإمارات التي استضافت في 19 مارس 2023، الرئيس السوري "بشار الأسد" في زيارة تعد الثانية له إلى الدولة الخليجية منذ 11 عامًا؛ جهودها لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية كي تحضر القمة العربية المبرم انعقادها بالسعودية في مايو 2023، هذا بجانب الإعلان في 26 مارس الجاري، عن لقاء مرتقب يجمع وزراء خارجية إيران وروسيا وتركيا والنظام السوري، لبحث الوضع في سوريا، ومحاولة إيجاد حل لهذه الأزمة، وعليه، فإن التصعيد الأمريكي قد يكون ردًا على جهود عودة علاقات سوريا بغيرها من الدول، إذ ترفض واشنطن التي تفرض عقوبات على سوريا بموجب (قانون قيصر 2020) إعادة الدول لعلاقاتها مع نظام "الأسد".
(&) زيارة رئيس الأركان الأمريكي إلى شرق سوريا: تأتي أعمال التصعيد بين أمريكا وميليشيا طهران بعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع على زيارة مفاجئة أجراها رئيس الأركان الأمريكي الجنرال "مارك ميلى" تُعد الأولى له منذ تسلمه منصبه في عام 2019، إلى شمال شرق سوريا، ووفقًا لوكالة "رويترز" البريطانية، فإن الهدف الرئيس من هذه الزيارة هو "تقييم مهمة عمرها 8 أعوام تقريبًا لمحاربة تنظيم "داعش" ومراجعة إجراءات حماية القوات الأمريكية من أي هجوم"، ولذلك فإن التصعيد الأمريكي بشدة على هذا الهجوم، بعد فترة قليلة من زيارة "ميلي"، هو التأكيد على أن واشنطن لن تتراجع عن مواجهة كل من يهدد وجود قواتها بالأراضي السورية، وهو ما قد يؤدي إلى تصاعد الضربات الأمريكية خلال الفترة المقبلة.
تداعيات محتملة:
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن عودة التصعيد بين أمريكا وميليشيا إيران في الأراضي السورية، قد ينجم عنه بعض التداعيات، يمكن إبرازها على النحو التالي:
1- تجديد دعوات سحب القوات الأمريكية من سوريا: إن عودة أعمال التصعيد سيؤدي مجددًا إلى رفع المطالب المنادية بضرورة سحب واشنطن لقواتها من سوريا التي يقدر عددها بحوالي ٩٠٠ جندي أمريكي، وكان ذلك أول رد لوزارة الخارجية السورية في تعليقها على الضربات الأمريكية بدير الزور، كما تجددت الدعوات الأمريكية المطالبة بالأمر ذاته، إذ دعا السيناتور الجمهوري "راند بول" في تغريدة على حسابه بموقع "تويتر" في 25 مارس 2023، إلى ضرورة سحب القوات الأمريكية من الأراضي السورية، قائلًا، " أعيدوا قواتنا العسكرية من سوريا"، وإعادة النظر مجددًا في مشروع القرار الذي سبق وقدمه النائب الجمهوري" مات غويتز" مطلع مارس 2023، والذي رفضه أعضاء الكونجرس الأمريكي وكان ينص على انسحاب قوات أمريكا من سوريا على غرار انسحابها من أفغانستان في أغسطس 2021.
2- تعزيز دفاعات القوات الأمريكية في سوريا: إن نجاح الهجوم على القاعدة العسكرية الأمريكية كشف عن وجود ضعف في نظام الدفاع الجوي الرئيسي بهذه القاعدة، الأمر الذي ألمح إليه بعض المسؤولين الأمريكيين في 24 مارس 2023، في تصريحات لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، والذين بينوا أن تعطلًا في نظام الدفاع الصاروخي بالصدفة هو ما ساهم في عملية الهجوم، ولذلك من المتوقع أن تتجه واشنطن خلال الفترة المقبلة إلى توفير جميع الأدوات اللازمة؛ لتحسين وإصلاح أي مشاكل في أنظمتها الدفاعية العاملة بالأراضي السورية، لصد أي هجمات مرتقبة.
3- زيادة التعاون بين إيران وروسيا داخل وخارج سوريا: إن تركيز أمريكا على استهداف المواقع التابعة لإيران في الأراضي السورية، قد يؤدي إلى زيادة التعاون العسكري بين طهران وموسكو التي سبق وسحبت جزءًا من قواتها في سوريا للقتال بجانب جنودها في أوكرانيا، وهو الأمر الذي قد ينعكس سلبًا على واشنطن وقواتها، التي سبق ونددت بدعم إيران بالمسيرات والصواريخ لروسيا في حربها مع أوكرانيا، والتي كانت سببًا رئيسيًا في تحقيق موسكو مكاسب بهذه الحرب التي لم تنته حتى الآن، خاصة أن أمريكا سبق وأعلنت عن مضايقات لقواتها في سوريا من قبل القوات والمقاتلات الروسية التي تحلق فوق مواقع القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا "بطريقة استفزازية" على حد قول "الجنرال مايكل كوريلا" رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، في ١٦ مارس الجاري.
4- تعثر جهود مفاوضات إحياء الاتفاق النووي: رغم أن أمريكا لطالما اتجهت على مدار السنوات الماضية إلى رفع أعمالها التصعيدية وإعلانها الرد بقوة على استهداف قواعدها العسكرية في سوريا، كـ "ورقة ضغط" ضد إيران للقبول بالشروط الأمريكية للعودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن في مايو 2018، وخاصة المتعلق بتوقف إيران عن دعم ميليشياتها في دول المنطقة، إلا أن هذا الهدف لم يكلل بالنجاح حتى الآن، بل على العكس نجم عنه تعثر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي ووصلها إلى طريق مسدود، وهو الأمر المتوقع أن يحدث خلال الفترة المقبلة لعدم نية أيا من الطرفين الأمريكي والإيراني في الاستجابة لشروط بعضهم وهو ما سيزيد من تعثر أية جهود دولية لإحياء مفاوضات النووي.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن ما ترغبه أمريكا من خلال أعمالها التصعيدية مع القوات التابعة لطهران في سوريا، هو ردعها من جهة، وطمأنة الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يتوقف بدوره خلال السنوات الماضية عن استهداف مواقع تابعة لإيران في الأراضي السورية، من جهة أخرى، وهو ما يعني أن الفترة المقبلة قد تشهد مزيدًا من أعمال التصعيد بين أمريكا والقوات المدعومة من إيران في الأراضي السورية إذ لم تتدخل قوى دولية وتضع حدًا لهذا الأمر الذي يؤثر سلبا على مصالح الشعب السوري خاصة القابع في المناطق محل الاستهداف.