وسط الطقس القاتم في "بلتشلي بارك" البريطانية، الذي تم استخدامها كمقر رئيسي لتحليل الشفرات للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، جلس القادة العالميون والأكاديميون والمديرون التنفيذيون لشركات التكنولوجيا العملاقة، في محاولة للخروج بإعلان مشترك للنوايا الحسنة، تجاه التطور الأكبر الذي يخشى أن يكون تهديدًا مدمرًا قد يواجه العالم، وهو الذكاء الاصطناعي الجامح.
لكن بدلاً من ذلك، قدّم الحضور عروضًا متنافسة حول كيفية إدارة التكنولوجيا التي ستهيمن على جزء كبير من العقد المقبل.
هنا، وصفت النسخة الأوروبية لصحيفة "بوليتيكو" المشهد بأنه "بالنسبة لأولئك الذين شاهدوا المحادثة مباشرة، كانت المساومة تحت المطر البريطاني، أشبه بتقسيم القوى الأوروبية للعالم في القرن التاسع عشر".
وفي نهاية الاجتماع، وقّعت 29 دولة، بما في ذلك الصين وأعضاء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اتفاقية طوعية للحد من المخاطر.
وبحلول نهاية عام 2024، يتوقع صنّاع السياسات الانتهاء من العديد من معايير الذكاء الاصطناعي الجديدة. بينما تنبأ عدد من المحللين بأنه في العام المقبل، ستؤدي المعركة الحامية للسيطرة على التكنولوجيا الفائقة إلى خلق فائزين وخاسرين.
صراع الشرق والغرب
ينقسم صراع التكنولوجيا الفائقة إلى عدة دوائر، دائرة واسعة بين حلفاء الغرب، المتعاونين ضد دول المحور الشرقي الساعية لتعدد الأقطاب، وأخرى أضيق بين الحلفاء أنفسهم، ليضمن كل منهم التفوق على الآخرين ومنحهم ما يريد من التقنيات.
وحتى الآن، تخشى الديمقراطيات الغربية، من أنه إذا فشلت الاقتصادات الصناعية الليبرالية في التوصل إلى نظام مشترك فيما بينها، فقد تتدخل الصين لوضع كتاب القواعد العالمية للتكنولوجيا التي يخشى البعض -في سيناريو يوم القيامة- أن تمحو البشرية من على وجه الأرض.
وبينما تطرح بروكسل وواشنطن خططهما المتضاربة لتنظيم الذكاء الاصطناعي، فإن فرص التوصل إلى اتفاق تبدو بعيدة كل البُعد عن أن تكون واعدة.
لذا، في اجتماع قادة دول مجموعة السبع الأخير في اليابان، أو ما عُرف بـ"قمة كيوتو"، حاول القادة الغربيون تصميم معايير عالمية جديدة للشكل الأكثر تقدمًا من هذه التكنولوجيا، والمعروف باسم "الذكاء الاصطناعي التوليدي"، وهو التطور القوي وراء ChatGPT والأدوات المنافسة.
قوانين الذكاء الاصطناعي
يُعّد قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي هو أول محاولة في العالم لإقرار تشريعات ملزمة بشأن هذه القضية.
وعلى عكس الموقف الذي تفضله الولايات المتحدة، تتضمن رؤية الاتحاد الأوروبي فرض حظر على الأشكال الأكثر عدوانية من التكنولوجيا، وقواعد صارمة، تتطلب من شركات مثل "جوجل" و"مايكروسوفت"، أن تكون أكثر انفتاحًا حول كيفية تصميم المنتجات القائمة على الذكاء الاصطناعي.
وتحاول بروكسل جعل نفسها "الشرطة الرقمية في الغرب"، عبر سلسلة من القواعد التنظيمية بشأن كل شيء، من حماية خصوصية المستهلكين إلى ترويض وسائل التواصل الاجتماعي.
في المقابل، دفعت الولايات المتحدة باتجاه نظام قواعد أخف، يرتكز في الأغلب على التزامات طوعية من القائمين على الصناعة، والقوانين المحلية القائمة.
وبينما تحاول بروكسل إقناع الجميع بأن قواعد أوروبا هي اللعبة الوحيدة المتاحة، رفض الأوروبيون اقتراح واشنطن البديل "بسبب افتقاره إلى تشريع ملزم"، رغم اعتماد واشنطن في تصدير رؤيتها على كونها القوة العالمية الأبرز لتطوير الذكاء الاصطناعي، حسب محرري "بوليتيكو".
ونقلت المجلة عن دبلوماسي غربي حضر قمة مجموعة السبع في "كيوتو" قوله: "كانت الرسالة واضحة. واشنطن لم تكن لتسمح لبروكسل أن تمضي في طريقها".
قبل نهاية العالم
في نوفمبر الماضي، اجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع 40 خبيرًا في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك رئيس شركة OpenAI جريج بروكمان، ورئيس خبراء الذكاء الاصطناعي في Meta، يان ليكون.
إذ تمتلك فرنسا صناعة محلية كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي. لذلك، كان رئيسها حريص شخصيًا على قيادة الجهود الدولية لوضع قواعد عالمية لهذه التكنولوجيا.
وعلى عكس الصور النمطية للسياسيين الفرنسيين المحبين للتنظيم، يظل ماكرون حذرًا من قانون الذكاء الاصطناعي في بروكسل، خوفًا من أن يعيق شركات مثل "ميسترال"، الشركة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي.
وفي اللقاء، رأى المشاركون أن التشريع الخاص بالذكاء الاصطناعي يجب أن يركز على التهديدات طويلة المدى، مثل تجاوز الذكاء الاصطناعي السيطرة البشرية.
وزعم آخرون أن الأضرار الواقعية الناجمة عن الذكاء الاصطناعي الحالي -بما في ذلك مجموعات البيانات الخاطئة التي رسخت التحيزات العنصرية- تتطلب من الساسة التحرك سريعًا.
وفي الوقت الحالي، هناك حجج مماثلة، تؤكد الحاجة إلى تركيز القواعد التنظيمية المزمعة على المخاطر طويلة المدى، مقابل حملة قمع فورية وطارئة، تنتشر الآن في جميع أنحاء العواصم الغربية.
التزييف العميق
بينما حاول القادة استيعاب المشكلات، كان المسؤولون التنفيذيون في مجال التكنولوجيا يجوبون الكوكب ليحثوا السياسيين على عدم الإفراط في التنظيم.
وزعم عمالقة التكنولوجيا أن حملة القمع المفرطة من شأنها أن تمنح الصين ميزة حاسمة في مجال الذكاء الاصطناعي.
وعرضت جماعات الضغط العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي مقاطع فيديو مزيفة لزعيمين غربيين تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، لتظهر للقادة كيف أن التكنولوجيا لديها القدرة على التطور لتشكل مخاطر جسيمة في المستقبل.
ومع اقتراب عام 2024، يبدو أن أولئك الذين يريدون لمسة أخف هم الفائزون، على الرغم من القواعد الملزمة الجديدة للاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي.
وبعد أن توصلت بروكسل إلى اتفاق سياسي في ديسمبر الماضي، بشأن قانون الذكاء الاصطناعي الخاص بها، انحاز ماكرون، بعد لقاء عمالقة الذكاء الاصطناعي، إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتز ورئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، التي تحث على تقليل الضوابط على أحدث أشكال التكنولوجيا.
وفي أوائل فبراير الماضي، استسلمت باريس أخيرًا للضغوط السياسية، وإن كان ذلك مع تحفظات كبيرة.