جاء الفوز المتوقع للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية الروسية الثامنة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بولاية خامسة تمتد حتى 2030، والتي فاز فيها بنسبة 87.28% من عدد الأصوات التي شاركت في العملية الانتخابية، والتي أجريت لأول مرة خلال ثلاثة أيام في الفترة من 15-17 مارس 2024، كما تم التصويت فيها إلكترونيًا لأول مرة، لتعكس نوعًا من الاستفتاء على سياسات الرئيس بوتين سواءً في الخارج، وما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية والتي دخلت عامها الثالث، أو ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية في الداخل، والتي تشهد تحسنًا نسبيًا برغم التحديات المتنوعة، بعد أن نجح بوتين في الحد من تأثير العقوبات الاقتصادية الغربية، بتنويع الشراكات الاقتصادية مع أقاليم العالم المتنوعة، والتوجه إزاء الاقتصادات الكبرى، لإمدادها بالنفط والغاز وفي مقدمتها الصين والهند.
نتائج الانتخابات
أعلنت لجنة الانتخابات المركزية الروسية نتائج الانتخابات، والتي عكست العديد من الأبعاد، لعل أهمها الآتي:
(*) ارتفاع نسبة المشاركة السياسية: قُدرت نسبة المشاركة في الانتخابات بـ 77.49% من إجمالي المقيدين في جداول الناخبين، وهي أعلى النسب في تاريخ الانتخابات الروسية، وذلك بمشاركة 87576075 ناخبًا بالداخل، ونحو 388791 من الروس بالخارج بأصواتهم، بينما تقدر الهيئة الناخبة الروسية بنحو 112.3 مليون ناخب في الداخل.
وحصل الرئيس فلاديمير بوتين على 76277708 أصوات، بنسبة 87.28% من إجمالي أصوات المشاركين في الانتخابات، وجاء في المركز الثاني مرشح الحزب الشيوعي نيكولاي خاريتونوف بنسبة 4.31%، وفي المركز الثالث فلاديسلاف دافانكوف مرشح حزب "الناس الجدد" بنسبة 3.85%، وفي المركز الرابع والأخير جاء ليونيد سلوتسكي بنسبة 3.20%.
(*) محدودية المنافسة الانتخابية: عكست الانتخابات الرئاسية الروسية محدودية المنافسة الانتخابية بين الرئيس الحالي بوتين ومنافسيه الثلاثة الآخرين وهم: نيكولاي خاريتونوف مرشح الحزب الشيوعي، وفلاديسلاف دافانكوف مرشح حزب "الناس الجدد"، وليونيد سلوتسكي مرشح الحزب الليبرالي الديمقراطي.
وتعود محدودية المنافسة إلى توقع معظم استطلاعات الرأي بإعادة انتخاب فلاديمير بوتين الذي يهيمن على مفاصل الدولة الروسية، فضلًا عن غياب أو اختلاف الرؤى التي طرحها المرشحون المتنافسون مع تلك التي يتبناها الرئيس بوتين، سواءً فيما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية على مستوى الداخل أو ما يتعلق بتأييد المرشحين المنافسين لبوتين في الحرب الروسية الأوكرانية.
(*) إجراء التصويت في الأقاليم الجديدة: أُجريت الانتخابات الرئاسية الروسية في الأقاليم الجديدة التي ضمتها روسيا من أوكرانيا، وهي دونيتسك ولوجانسك وزابورجيا وخيرسون، وهو الأمر الذي انتقده الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي واعتبره تهديدًا للسيادة والسلامة الإقليمية، واصفًا الانتخابات الرئاسية الروسية بأنها محاكاة تفتقر إلى الشرعية.
(*) التشكيك الغربي في نزاهة الانتخابات: شككت العديد من الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في نزاهة الانتخابات الروسية، إذ وصف مستشار الأمن القومي جيك سوليفان نتائج الانتخابات التي أُعلنت بفوز بوتين بولاية خامسة بأنها لا تفي بأي من معايير للحرية والنزاهة، وأن الولايات المتحدة ستتعامل مع الواقع باعتبار أن روسيا تحت قيادته، فيما وصفت الخارجية البولندية الانتخابات الرئاسية في روسيا بأنها غير قانونية وغير حرة وغير نزيهة.
فيما جاء رد روسيا من خلال دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين بأن نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية هي التأكيد الأبلغ لمستوى الدعم من سكان البلاد لرئيسها والتفافهم حوله، رافضًا الانتقادات الأمريكية، وأن روسيا لا تستمع لمثل هذه الآراء، واصفًا المحاولات الغربية لتصوير الانتخابات على أنها غير شرعية بـ"السخيفة".
دلالات متعددة
يعكس فوز الرئيس فلاديمير بوتين بالانتخابات الرئاسية الروسية لعام 2024 العديد من الدلالات، لعل أهمها:
(&) الدعم الداخلي لتوجهات بوتين الخارجية: يعكس فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدعم الداخلي لتوجهاته الخارجية لا سيما ما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت عامها الثالث، وأن حصوله على نسبة التأييد المرتفعة 87% تعكس تفويضًا من الروس للاستمرار في تلك الحرب. وهو الأمر الذي علق عليه وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون بأن حصول بوتين على تلك النسبة تسمح على المستوى الداخلي للكرملين بالقول إن الأمة بأكملها متحدة حول فلاديمير بوتين، وأن الرئيس الروسي يحظى بالدعم الكامل من شعبه، ومن الأهمية بمكان أن يظهر بوتين الآن أنه يتمتع بتفويض شعبي للحرب في أوكرانيا والاتجاه الذي يقود روسيا فيه.
وميدانيًا، يتزامن إجراء الانتخابات مع سلسلة النجاحات التي حققها الجيش الروسي بميدان المعركة بعد ضم مدينة أفدييفكا الاستراتيجية بإقليم دونباس، وهو ما يعكس أن ميزان الحرب أضحى لصالح روسيا، الأمر الذي دفع الدول الغربية لحالة من الاستنفار لمواجهة التقدم الروسي في أوكرانيا، إذ أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم دعم لأوكرانيا بقيمة 50 مليار دولار، كما عقدت العديد من الدول الأوروبية الفاعلة، في مقدمتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، اتفاقات أمنية ثنائية مع أوكرانيا، تعويضًا عن عدم انضمامها لحلف الناتو، بهدف تعزيز الشراكات الاقتصادية والعسكرية مع أوكرانيا بما يعزز من قدراتها الدفاعية لمواجهة روسيا.
(&) مساندة سياسات بوتين الداخلية: أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أن اقتصاد بلاده أضحى الأول أوروبيًا والخامس عالميًا، إذ بلغ معدل نمو الاقتصاد الروسي مع نهاية عام 2023 ما يقرب من 3.5%، وذلك خلال لقاءه مع رجال أعمال من الشرق الأقصى الروسي مطلع يناير 2024.
ويعود التحسن في معدل النمو الاقتصادي الروسي مقارنًة بالعديد من الدول الغربية إلى عاملين أساسيين، الأول: تحسن أسعار النفط والغاز؛ إذ تعد روسيا من الدول الرئيسية المصدرة لهما، أما العامل الثاني وربما الأهم فإنه يعود إلى اتجاه بوتين لتعزيز وتنويع شراكاته الاقتصادية مع أقاليم العالم الاقتصادية البازغة، وفي مقدمتها آسيا بعد أن تبنى استراتيجية أنبوب الشرق، لتصدير الغاز والنفط لآسيا خاصًة إلى الصين والهند، باعتبارهما من أعلى الدول المستوردة للطاقة كبديل لنورد ستريم (2،1) الذي كان ينقل الغاز إلى أوروبا التي كانت تعتمد على 40% من استهلاكها على الغاز الروسي.
(&) تأكيد الرغبة في استعادة مكانة روسيا دوليًا: يمثل فوز الرئيس فلاديمير بوتين بولاية جديدة تمتد إلى 2030 تأييدًا داخليًا لتوجهاته لاستعادة مكانة روسيا على مسرح السياسة الدولية، والتي تتجسد في انخراط روسيا بشكل أكثر فعالية في الأزمات الدولية، ومنها على سبيل المثال الانخراط الروسي في الأزمة السورية لدعم ومساندة الرئيس السوري بشار الأسد، والانخراط الروسي في الدعوة لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وتقديم مشروعات قرارات ومساندة أخرى داخل مجلس الأمن تطالب بوقف الحرب ومنع استهداف المدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية داخل قطاع غزة، وكذلك الانخراط الروسي في الحلول محل النفوذ الفرنسي في دول الغرب الإفريقي التي شهدت أزمات للحكم وإطاحة بأنظمة ظلت علاقاتها استراتيجية بفرنسا، يضاف إلى ذلك الحرب الروسية الأوكرانية التي تجسد وفق رؤية الرئيس بوتين الدفاع عن المصالح الوطنية الروسية، ومنع تمدد حلف الناتو على التخوم الروسية.
(&) التحول إلى نظام دولي متعدد الأقطاب: يعكس فوز الرئيس فلاديمير بوتين، الدعم الداخلي لتوجهاته الاستراتيجية على المستوى الخارجي، وفي مقدمتها سعيه ومساندته جهود القوى الكبرى الرامية إلى التحول من نظام أحادي القطبية تهيمن على تفاعلاته الولايات المتحدة الأمريكية، إلى نظام متعدد الأقطاب يعطى فرصة للدول الكبرى لحماية مصالحها والحفاظ عليها وفي مقدمتها روسيا والصين والهند، وهي الدول التي تشكل الحضارات الشرقية، بما جعل العديد من الاتجاهات تتوقع بأن القرن الواحد والعشرين سيكون قرنًا آسيويًا بامتياز، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية لتبني استراتيجية التوجه شرقًا لمنع الصعود الروسي، وتعزيز وتنويع تحالفاتها الاستراتيجية مثل "أوكوس"، و"كواد"، لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي في منطقة الإندوباسيفيك.
مجمل القول؛ إن نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية، وفوز الرئيس الحالي فلاديمير بوتين بولاية جديدة تمتد حتى 2030، تعكس -برغم الانتقادات الغربية للعملية الانتخابية- تماسك الجبهة الداخلية الروسية وثقة الروس في قيادة بوتين، ومساندتها لسياساته على المستويين الداخلي والخارجي، لا سيما في ما يرتبط بالدعم الداخلي للحرب الروسية الأوكرانية، والتي جعلت بوتين يحذر في خطاب النصر عقب إعلان فوزه بأن نشر قوات غربية في أوكرانيا قد يقود العالم إلى شفا حرب عالمية ثالثة.