طرح الرئيس الأمريكي جو بايدن في الخطاب السنوي عن حالة الاتحاد 7 مارس 2024 العديد من القضايا الداخلية في مقدمتها: تحسن أوضاع الاقتصاد الأمريكي وتعافيه بعد جائحة كوفيد، وما تواجهه الديمقراطية الأمريكية من تحديات عقب اقتحام مبنى الكابيتول، والإجهاض باعتباره حقًّا دستوريًا للنساء تم إسقاطه ويتطلع لإعادته، والهجرة التي تمثل ترجمةً للحلم الأمريكي الذي يسعى إليه المهاجرون. كما تمحورت القضايا الخارجية في خطاب بايدن حول العديد من المسائل أهمها: الموقف الأمريكي من الحرب الروسية الأوكرانية، والتصميم على دعم أوكرانيا، وهزيمة بوتين، والحرب الإسرائيلية على غزة وتبني حل الدولتين، والعلاقة مع الصين باعتبارها منافسة لا صراع، وتوسيع الناتو لضمان الأمن الأوروبي.
سياقات معقدة
يأتي إلقاء بايدن لخطاب حالة الاتحاد السنوي في ظل سياقات دولية ترتبط بتراجع الهيمنة الأمريكية، وبروز أقطاب جديدة على المستوى الدولي، وأخرى داخلية معقدة تتعلق بالانقسام المجتمعي الحاد، وما تفرزه الاستعدادات لإجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية. لذلك يمكن الإشارة إلى أبرز تلك السياقات في التالي:
(*) دخول الحرب الروسية الأوكرانية العام الثالث: جاء خطاب حالة الاتحاد الذي طرحه بايدن ليتزامن مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث في ظل الفشل الغربي، لدعم أوكرانيا لتحقيق انتصار على روسيا بعد أن نجح بوتين في تعزيز تمركزاته داخل أوكرانيا مؤخرًا بالسيطرة على مدينة أفدييفكيا بالدونباس، وبالتالي يقترب ما سيطر عليه بوتين داخل الأراضي الأوكرانية من ربع مساحتها. ويعزز من الموقف الروسي في أوكرانيا تحسن نمو الاقتصاد الروسي، وفشل العقوبات الاقتصادية الغربية، يضاف إلى ذلك ما وصفه وزير الدفاع الأوكراني بتأخر الإمدادات العسكرية من الدول الغربية إلى أوكرانيا، والتي لا يصل سوى نصفها من الوعود التي تطرح. لذلك بدأ خطاب بايدن عن حالة الاتحاد وعلى غير المعتاد بالسياسة الخارجية ومن أوكرانيا تحديدًا.
(*) الانحياز الأمريكي في حرب غزة: جاء خطاب بايدن عن حالة الاتحاد في ظل حالة من الانحياز الأمريكي اللامحدود لإسرائيل برًا وجوًا وبحرًا في حربها التي تشنها على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وأدت إلى سقوط ما يقرب من 30 ألف شهيد فلسطيني، وجرح ما يزيد على 60 ألف وتدمير معظم مدن القطاع، واستهداف البنية الأساسية، مما دفع بنزوح ما يزيد على 2 مليون فلسطيني من شمال القطاع إلى جنوبه. كما تجلى ذلك الانحياز برغم الحديث الأمريكي عن حل الدولتين في استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق استخدام النقض(الفيتو) ضد مشروعات القوانين التي طرحت بمجلس الأمن، لإدانة إسرائيل أو المطالبة بوقف النار لإدخال المساعدات الإنسانية، في ظل معاناة الفلسطينيين داخل قطاع غزة، وزاد من تلك المعاناة تعليق عدد من الدول الغربية في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لتمويل الأونروا التي تعمل في مجال إغاثة الفلسطينيين، وتعليم وتوظيف عدد معتبر من النازحين داخل فلسطين وخارجها.
(*) الانقسام المجتمعي الأمريكي: يشكل الانقسام المجتمعي الأمريكي أحد التحديات التي تواجه إعادة انتخاب بايدن كمرشح للحزب الديمقراطي، وهو الانقسام الذي هيمن على مفردات خطاب حالة الاتحاد، وتجلى في توجيهه العديد من الانتقادات لأداء الحزب الجمهوري ولسلفه السابق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يقترب بخطوات متسارعة من ضمان ترشيح الحزب الجمهوري له بعد أن اكتسح جميع المنافسات التمهيدية التسع في تقويم الحزب الجمهوري، باستثناء فوز واحد لمنافسته نيكي هيلي في العاصمة واشنطن التي يصفها ترامب بالمستنقع. وبعد إجراء الانتخابات التمهيدية في ولايات جورجيا وفلوريدا وإلينوي وأوهايو في 12، مارس 2024 تخطى ترامب العدد السحري 1215 مندوبًا ووصل إلى 1249 مندوبًا، وهو العدد الذي يضمن له الفوز بترشيح الحزب.
رسائل بايدن
انعكست السياقات السابقة على مضمون القضايا التي طرحها الرئيس الأمريكي جو بايدن في الخطاب السنوي لحالة الاتحاد، والتي يمكن الإشارة إلى أبرز الرسائل التي تضمنها الخطاب في العناصر التالية:
(*) أزمة الديمقراطية الأمريكية: تعاني الديمقراطية الأمريكية من أزمة عميقة منذ اقتحام مناصري ترامب لمبنى الكابيتول بعد الإعلان عن فوز الرئيس الحالي جو بايدن في انتخابات 2020، ورفض الرئيس السابق دونالد ترامب حضور مراسم نقل السلطة باعتباره تقليدًا أمريكيًا مستقرًا. لذلك تضمن خطاب بايدن إلقاء الضوء على التهديدات الداخلية للديمقراطية الأمريكية قائلًا" التاريخ يراقب كما راقب قبل ثلاث سنوات في السادس من يناير حيث اقتحم متمردون الكابيتول ووضعوا خنجرًا على حلق الديمقراطية الأمريكية". أما بالنسبة لتهديدات الديمقراطية الخارجية فقد اعتبر أن بوتين في حال انتصاره في أوكرانيا لن يتوقف، ودعا الكونجرس الأمريكي إلى الموافقة على المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، والتي تقدر بما يقرب من 60 مليار دولار. حيث وافق مجلس الشيوخ ورفضها مجلس النواب.
(*) تحسن الاقتصاد الأمريكي: تضمن خطاب حالة الاتحاد إشادة بايدن بتحسن وضع الاقتصاد الأمريكي وتعافيه بعد أزمة كوفيد حيث انخفض التضخم من 9% إلى 3% وهو الأدنى على مستوى العالم، مشيرًا إلى أنه ورث اقتصادًا على حافة الهاوية تحول إلى حال أفضل، حيث نجح في توليد 15 مليون وظيفة جديدة في ثلاث سنوات، بما جعل البطالة عند أدنى مستوياتها منذ 50 عامًا، كما تم إيجاد 800 ألف وظيفة جديدة في مجال الصناعة، ويتمتع عدد أكبر من الأشخاص بالتأمين الصحي. وتطرق بايدن أيضًا لقانون دعم صناعة أشباه الموصلات التي اخترعتها الولايات المتحدة الأمريكية وبدلًا من أن تستوردها بدأت الشركات الخاصة تستثمر مليارات الدولارات لبناء مصانع جديدة في أمريكا.
(*) الهجرة وحق الإجهاض: شن بايدن في خطاب حالة الاتحاد هجومًا على سلفه السابق ترامب بسب خطابه المناهض للمهاجرين، وملقيا باللوم عليه في هذه المسألة قائلًا لقد قالوا لي أن سلفي طالب الجمهوريين في الكونجرس بصد الاتفاق، فهو يشعر بأنه سيشكل فوزًا سياسيًا لي وخسارة سياسية له "، مطالبًا الكونجرس بإصلاح قوانين الهجرة ومنها منع عرقلة الاتفاق الذي توصل إليه المفاوضون من الحزبين حول الهجرة وأمن الحدود. وفيما يخص قضية الإجهاض أشار بايدن إلى أن حظر الاجهاض أربك النساء في الولايات المختلفة وأنه ربما يعيد النظر في تلك المسألة من خلال قانون جديد يوفر حقًا دستوريا بالإجهاض.
(*) حل الدولتين: وصف بايدن يوم 7 أكتوبر بأنه الأكثر دموية للشعب اليهودي منذ المحرقة، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار لمدة ستة أسابيع بين إسرائيل وحماس، مؤكدًا على أنه لا يمكن لإسرائيل أن تستخدم المساعدات ورقة مساومة، وأن واشنطن تقود جهودًا دولية لإيصال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة. مضيفًا أنه وجه الجيش الأمريكي لقيادة مهمة طارئة لإنشاء رصيف مؤقت على ساحل البحر الأبيض المتوسط على ساحل غزة، لاستقبال السفن الكبيرة التي تحمل الغذاء والماء والدواء وملاجئ مؤقتة، وأنه لن تكون هناك قوات أمريكية على الأرض، وحث إسرائيل على القيام بدورها بالسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة، ويجب أن تكون حماية أرواح الأبرياء وإنقاذها أولوية، كما أعاد بايدن التأكيد على أن الحل الحقيقي الوحيد هو حل الدولتين.
(*) دعم أوكرانيا: شكلت أوكرانيا القضية الرئيسية التي استهل بها بايدن خطابه عن حالة الاتحاد، نظرًا لأهميتها، حيث دعا إلى إقرار حزمة من المساعدات الأمريكية العالقة في مجلس الشيوخ، لاسيما وأن بايدن يعتبر هزيمة بوتين في أوكرانيا هدفًا محوريًا لإداراته حتى لا يتكرر نفس السيناريو الروسي مع دولة أوروبية أخرى قائلًا" إذا كان أي أحد موجود في هذه الغرفة يظن بأن بوتين سوف يتوقف في أوكرانيا، أؤكد لكم أنه لن يفعل ذلك".
(*) منافسة الصين: أكد بايدن في خطاب حالة الاتحاد على أن واشنطن تقف ضد ممارسات الصين الاقتصادية غير العادلة، والدفاع عن السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، وذلك من خلال قيام الإدارة الأمريكية بتنشيط الشراكات والتحالفات في منطقة المحيط الهادئ، وأضاف أن التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة لا يمكن استخدامها في أسلحة الصين، وأن الولايات المتحدة تسعى للمنافسة وليس الصراع مع الصين، وأن واشنطن في وضع أقوى للفوز في أي منافسة ضد الصين أو أي دولة أخرى.
مجمل القول تشكل القضايا التي تناولها الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب حالة الاتحاد السنوي تجسيدًا للإنجازات التي حققها بايدن، ومنها تحسن الاقتصاد الأمريكي وتعافيه وقدرته على توليد الوظائف وانخفاض التضخم، وتحسن الرعاية الاجتماعية والسعي لمعالجة قضايا الهجرة والحدود والإجهاض، وهى القضايا التي تهم الناخب الأمريكي بالأساس غير أن القضايا الخارجية التي بدأ بها بايدن خطابه ،ومنها أزمة أوكرانيا والحرب على غزة، والموقف من الصين كلها تعكس إخفاقًا أمريكيًا تعكس أزمة الهيمنة الأمريكية وعدم القدرة على قيادة العالم الذى يحتاج إلى إعادة النظر في منظومة القرار الدولي حيث يجسد التفاعل الغربي مع حربي أوكرانيا وغزة تحديدًا ازدواجية المعايير والسقوط الأخلاقي للمنظومة الغربية.