الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

لماذا يتزايد الاهتمام بالأمن البحري؟

  • مشاركة :
post-title
سفينة حربية أمريكية

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

في خضم التنافس الاستراتيجي على السيادة البحرية، وفي إطار الأزمات متعددة الأبعاد التي ضربت العالم في السنوات الأربعة الأخيرة، برزت أهمية المجال البحري في الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين ومواجهة التداعيات الضخمة لاضطرابات أمن الملاحة في المضايق الاستراتيجية والمياه الزرقاء، في ظل وجود متغيرات مهمة في ساحة المعارك الحديثة حتى باتت الطائرات المسيّرة هي الأداة الأكثر فتكًا بكبريات القطع البحرية.

وتأسيسًا على ما سبق يتناول التحليل الاستراتيجي التالي أبعاد احتدام التنافس للهيمنة على البحار والمضايق الاستراتيجية، وأسباب تزايد الاهتمام بالوقت الراهن، فضلًا عن انعكاسات ذلك على الصّعُد الاقتصادية والدفاعية والسياسية الدولية.

أبعاد الاهتمام:

لم يعد الأمن البحري قاصرًا على التهديدات التي تواجه دولة أو عدة دول متشاطئة، بل باتت أهميته انعكاسًا للقيمة الاستراتيجية للممر البحري موضع النزاع، وكذلك حجم المصالح الاقتصادية والتجارية المارة عبره أو غيرها من البنى التحتية الحيوية البحرية، ومع اقتران تلك البيئة البحرية بالثروات الأرضية والاكتشافات انتقلت إلى مركز الصراع العالمي حول الموارد والنفوذ على الساحتين الإقليمية والدولية، ويمكن توضيح أهم أبعاد الاهتمام بالأمن البحري على النحو التالي:

(*) النزاعات الإقليمية: خلقت الاكتشافات البحرية الواعدة لموارد الهيدروكربون صراعات محمومة على مد السيطرة والنفوذ لتوسيع المياه الإقليمية، ومن ثمّ نشوب النزاعات بين الدول المتشاطئة حول حقوق البحث والاستكشاف، خاصة في البحار الضيقة التي لا تتسع للحد الأقصى لترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة (200 ميل بحري)، وكذلك في حالة البحار المفتوحة والمحيطات، خاصة إذا اتصل النزاع بترسيم الحدود البرية ووضع نقاط الأساس (الوهمية) التي تبدأ من ترسيم الحدود البحرية، وذلك في حال ارتبط بوجود جزر صغيرة وغير مأهولة تقع قبالة ساحل دولة أخرى، وهو ما يبرز من موقع الجزر اليونانية القريبة من الساحل التركي، التي تعد امتدادًا للإقليم البري اليوناني، وفق قانون البحار والمحيطات 1982، الذي لا تعترف به تركيا وتدفع بنظرية الجرف القاري.

(*) السيادة البحرية: تتداخل أهداف توسيع المياه الإقليمية بتوسيع النفوذ والسيادة البحرية للصين في حالة بحر الصين الجنوبي، حيث يبرز دور الجزر الصناعية كأحد أدوات بكين لمد نفوذها على نحو 90% من البحر الذي يستحوذ على أهمية استراتيجية على طرق التجارة البحرية العالمية بنحو 1/3 حجم التجارة العالمية، ويعد ذلك الممر الاستراتيجي معبرًا حيويًا لما يقارب 80% من واردات النفط الخام إلى كل من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، في ظل توقعات بنمو نسبة واردات الصين من النفط عبر بحر الصين الجنوبي إلى 80%، ونحو 62% من الغاز الطبيعي المسال بحلول عام 2030.

وهو الحال كذلك بالنسبة للمجال الأوروأطلسي، حيث يمثل المجال البحري نحو 80% من نطاق مهام حلف الناتو، وعلى رأسها القطب الشمالي، وما يزخر به من موارد هيدروكربونية تمثل نحو 13% من إجمالي الاحتياطي العالمي غير المؤكد من النفط، و30% من الغاز الطبيعي، إلى جانب العديد من العناصر الأرضية النادرة والمعادن مثل اليورانيوم والنحاس والنيكل والذهب والألماس.

ملامح الصراع فى بحر الصين الجنوبي ... انفوجراف

(*) اضطراب سلاسل الإمداد: عزّزت جائحة فيروس كورونا "كوفيد-19" والحرب الروسية الأوكرانية من أزمات الشحن للعديد من السلع الاستراتيجية، على رأسها الحبوب وموارد الطاقة، بما ساهم في رفع تكلفة العديد من المواد الغذائية على وجه التحديد، وعزّز اختناق سلاسل التوريد العالمية بوجه عام، إذ ساهم اتساع التوتر في البحر الأسود والقطب الشمالي وبحر الصين الجنوبي والوضع المتوتر في شبه الجزيرة الكورية وصولًا إلى الحرب على غزة في تحقيق العديد من النتائج السلبية وعلى رأسها ارتفاع وتيرة التسلح العالمي إلى جانب إعادة النظر في مسارات التجارة وشبكات الاعتماد المتبادل بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى على صعيد استبدال النفط والغاز الروسي والتضييق على صناعة الرقائق الإلكترونية الصينية.

(*) الأزمات اللوجيستية والمناخية: تحمل الاضطرابات المناخية تأثيراتها الضارة على حركة التجارة البحرية العالمية، ما يظهر في جفاف قناة بنما التي يمر عبرها نحو 270 مليار دولار سنويًا، وهي طريق لنحو 40% من حركة الحاويات الأمريكية، وانخفضت حركة التجارة عبر القناة خلال شهري يناير وفبراير 2024 بنسبة 32%، مقارنة بمثيلتها خلال الفترة نفسها من العام الماضي، كما انخفض معدل المرور عبر قناة السويس بنحو 50%، مقابل ارتفاع حركة المرور بنسبة 74% عبر رأس الرجاء الصالح، حسب بيانات صندوق النقد الدولي.

إلى جانب ذلك، خلقت تلك الاضطرابات في الممرات البحرية الحيوية للتجارة، الفرصة لتوسيع وإعادة إحياء بعض الطرق والممرات البرية والبحرية للتجارة، وعلى رأسها طريق الحرير القطبي الذي تتبناه روسيا والصين، حيث عززت روسيا في السنوات الأخيرة أسطولها من كاسحات الجليد إلى نحو 57 قطعة مقابل 52 كاسحة تابعة لدول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وكاسحتين فقط للصين.

وتزداد تلك الأهمية مع الاضطرابات الملاحية واحتياجات الدول الحبيسة لمنافذ آمنة على التجارة العالمية بما يقلل تكلفة الشحن والتأمين وكذلك يوفر المزيد من فرص العمل، وذلك على غرار مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر الأبيض المتوسط لتحويل نهر النيل إلى مجرى ملاحي دولي.

تهديدات متزايدة

خلّفت الاصطفافات الدولية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية والتوترات المتزايدة بين الصين وشركائها في بحر الصين الجنوبي، إلى جانب حرب غزة وما خلفته من تصعيد إقليمي على جبهات متعددة:

(&) تعزيز الانتشار البحري: تشهد منطقة المحيطين الهندي والهادئ توسعًا متزايدًا في عدد القواعد العسكرية البحرية على التوترات المتزايدة بين الصين وكل من الولايات المتحدة والفلبين، فعلى وقع توسيع حرية الوصول الأمريكي للقواعد الفلبينية لمواجهة نفوذ الصين، وقّعت الفلبين وأستراليا اتفاق تعاون وثلاث مذكرات تفاهم في مجال الأمن البحري، في ضوء الزيادة المخططة للأسطول البحري الأسترالي إلى 26 قطعة بحرية منها 11 فرقاطة و6 سفن بقدرات صاروخية بعيدة المدى في إطار اتفاق مع شركة "BAE Systems" البريطانية بقيمة 7.2 مليار دولار أمريكي (11.1 مليار دولار أسترالي) كشفت عنه صحيفة "فاينانشيال تايمز" في فبراير الماضي.

ودفع ذلك الهند لتدشين قاعدة استراتيجية أخيرًا على جزيرة لاكشادويب القريبة من جزر المالديف، على خلفية الانسحاب المخطط لنحو 289 عسكريًا هنديًا من المالديف، وقد عزّزت نيودلهي قواتها البحرية بدخول سفينة استطلاع كبيرة في 3 فبراير 2024.

وتزداد المخاوف في المجال الأوروأطلسي مع توسيع أساطيل الغواصات الروسية والأوروبية في بحر البلطيق، إذ تخطط روسيا لإضافة نحو 4 غواصات نووية خلال العام الجاري، كما تعزز بحريات الجيوش الأوروبية غواصاتهم الهجومية خلال السنوات المقبلة وعلى رأسهم السويد التي تخطط لإدخال غواصتين من طراز "A-26" إلى الخدمة عامي 2027 و2028، إلى جانب طلب النرويج 4 غواصات من مجموعة تيسين كروب الألمانية، وهو ما يتطابق مع توجه بحريات ألمانيا وفرنسا وهولندا لتوسيع أساطيلها من الغواصات الهجومية.

خريطة الكابلات البحرية 2023-تيلي جيوجرافي

(&) تخريب البنية التحتية البحرية: في ظل اتساع نطاق المواجهات في ساحات التنافس البحري الرئيسي تبرز المخاوف من استهداف البنية التحتية الحيوية للخصوم في قاع البحار من تدمير خطي الغاز "نورد ستريم 1-2" والكهرباء وكابلات الاتصال البحرية القارية التي تبلغ نحو 574 كابل بحري قائم أو قيد التنفيذ، ومسؤولة عن 97% من حركة تدفق البيانات عبر الإنترنت عالميًا وهي أفضل من اتصالات الأقمار الصناعية من حيث التكلفة، حسب مجلة "الإيكونوميست" وموقع "تيلي جيوجرافي". وعلى ضوء أهميتها المدنية، تحظى كابلات الاتصال البحرية بأهمية مماثلة على الصعيد العسكرية في دعم أنظمة الاتصال والملاحة ومن ثم تعزيز الوعي بالمجال البحري في نطاق مسئولية القوات البحرية الوطنية وتحالفات حماية الملاحة البحرية على غرار مشروع رقمنة بحار الشرق الأوسط بالتعاون بين الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين، ومن شأن الإضرار المادي أو السيبراني بتلك الكابلات أن يؤثر على عمليات تلك القوات ويحد من قدرتها على توفير معلومات دقيقة بشأن التهديدات المحتملة.

وتساهم سفن الصيد المدنية بمعداتها في أغلب حوادث قطع الكابلات البحرية، ففي 17 أكتوبر 2023 أبلغت السويد وفنلندا بتعرض كابل اتصالات وخط أنابيب غاز، يمتدان إلى إستونيا عبر بحر البلطيق، لأضرار جزئية، بينما تضرر كابل بحري روسي لأضرار مماثلة على بعد نحو 28 كم، إلا أن تطابق تلك الحوادث مع التوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى يعزز الاتهامات باستخدام تلك السفن بصورة متعمدة لتخريب البنية التحتية البحرية للخصوم، ففي يناير 2022 وقبل الحرب الروسية الأوكرانية اتهم الإعلام النرويج سفينة صيد روسية بقطع كابل بحري يربط بين أرخبيل سفالبارد والبر الرئيسي للنرويج نتيجة مرورها لما يزيد على 20 مرة فوق الكابل المتضرر.

(&) المعارك غير المتماثلة: فرضت المواجهات غير المتماثلة نفسها على المعارك البحرية في الوقت الراهن سواء من حيث التباين في طبيعة الفاعلين أو اختلاف وسائل المعركة، وأثبتت الحرب الروسية الأوكرانية أهمية دور المسيّرات البحرية والجوية في تحييد القطع العسكرية الكبيرة وإحراج بحريات الجيوش الكبرى، خاصة في ضوء الهجمات المنظمة بالمسيّرات الجوية والبحرية التي استهدفت السفن الرئيسية في أسطول البحر الأسود الروسي، ويمثل الهجوم على مقر الأسطول في 29 أكتوبر 2022، تحولًا في شكل المعارك البحرية نظرًا لكثافة الهجوم الذي نُفذ بواسطة طائرات وسفن سطح موجهة عن بعد.

وينطبق ذلك على نشاط قوارب الصيد في بحر الصين الجنوبي التي تدعم مطالبات بكين بالسيادة على أغلب مناطقه استنادًا إلى خط النقاط التسع الذي يمد سيطرتها على نحو 80% من البحر، ويوفر استخدام تلك القوات غير النظامية في حوادث التصادم بسفن الصيد الأخرى من الدول المتنازعة على السيادة الإقليمية قابلية الإنكار للجانب الصيني فهي سفن تجارية مدنية بالأساس ولا تتبع بصورة مباشرة لبحرية جيش التحرير الشعبي.

ومع مرور نحو شهرين على بدأ عملية "حارس الازدهار" الأمريكية البريطانية ضد هجمات "الحوثيين" في البحر الأحمر ضد السفن المتجهة لإسرائيل، إلا أن الهجمات لا تزال مستمرة وتزداد حدة، إذ أسفر استهداف سفينة ترو كونفدنس التي تحمل علم بربادوس عن 3 قتلى و4 جرحى في 6 مارس 2024، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من إسقاط السفينة "روبيمار" البريطانية.

وإجمالًا؛ يمثل تصاعد التهديدات البحرية النظامية والممنهجة وغير النمطية أحد أبرز سمات التنافس الاستراتيجي في المشهد الدولي الراهن، وهو ما مثّل دافعًا لتطوير استراتيجيات الأمن البحري لتشمل تلك التهديدات إلى جانب محاربة الهجرة غير النظامية وتهريب الأسلحة والمخدرات عبر البحر، وهو ما يظهر في توسيع أساطيل الغواصات والمسيّرات البحرية الغربية والروسية والصينية إلى جانب سفن السطح وطائرات الدورية البحرية لتعزيز الوعي بالمجال البحري والتعامل مع التهديدات في قاع البحار التي تستهدف البنية التحتية للطاقة والاتصالات.