بدأت يوم الاثنين 23 مايو، فعاليات الاجتماع السنوي لبنك التنمية الإفريقي بشرم الشيخ المصرية، التي تستمر حتى 26 من مايو 2023، تحت شعار "حشد تمويل القطاع الخاص من أجل المناخ والنمو الأخضر في إفريقيا"، وقد حضر الاجتماع بعض رؤساء الدول والحكومات الإفريقية، بالإضافة إلى عدد من وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية، وممثلي القطاع الخاص والأكاديميين وشركاء التنمية من الدول الأعضاء في مجموعة بنك التنمية الإفريقي.
تأسيسًا على ما سبق، يحاول هذا التحليل قراءة فعاليات اليوم للاجتماع، كذلك جهود مصر في دفع مسار التنمية المستدامة من خلال مشروعات الطاقة المتجددة ومشروعات محطات المياه المُعالجة.
قراءة في اليوم الأول:
تنوعت أفكار المتحدثين حول دفع مسارات التحول نحو الاقتصاد الأخضر، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، قراءة الأرقام التي يشير إليها الرئيس المصري عبد الفتاح والسيسي، خلال الاجتماع التي عبّر عنها الشكل رقم (1) توضح الفجوة التمويلية التي تعاني منها القارة الإفريقية في سبيل تمويل آثار تغيرات المناخ، إذ قٌدر حجم الخسائر الناتجة عن تغيرات المناخ بـ70 مليار دولار، كما تحتاج القارة لـ200 مليار دولار لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهو ما استلزم الخروج ببعض التوصيات المهمة، التي يمكن توضيحها في النقاط التالية:
(*) التوسع في إصدار السندات الخضراء: أوضح رئيس مجموعة البنك الإفريقي للتنمية، أن حجم السندات الخضراء الصادرة 2.6 تريليون، ونصيب إفريقيا منها 0.2 فقط، وهو ما يوضح ضالة التمويل الموجه لإفريقيا لتحقيق التحول نحو الاقتصاد الأخضر، ويتطلب ضرورة التوسع في إصدار هذه السندات، بحيث يكون للدول الإفريقية نصيب يتناسب مع حجم الضرر الذي يلحق بها من جراء التغيرات المناخية.
وعلى الرغم من أن السندات الصادرة، تساهم بنسبة ضئيلة في التلوث العالمي، فهي تمثل 4% من جميع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، إلا أنها تتحمل تكاليف كثيرة ناتجة عن التغيرات المناخية، فقد قٌدر حجم التدفقات المحلية والدولية لمواجهة آثار التغير المناخي بـ30 مليار دولار فقط، وهي قيمة ضئيلة جدًا بالنسبة لما يحتاجه العمل المناخي في إفريقيا، الذي ُقدر بقيمة 133 مليون دولار خلال عام 2020، بحسب ما أشار له محافظ البنك المركزي المصري، فالتوسع في هذه السندات ستُحقق الاستدامة البيئية، وقد توفير التمويل المستدام لتحقيقها، لأنها سندات تخصص عائدها لتمويل المشروعات الخضراء.
(*) تفعيل دور المجتمع الدولي: يتطلب الحصول على قروض ميسرة، أن تعمل المؤسسات التمويلية متعددة الأطراف إلى إعادة النظر في المعايير والشروط التي تؤهل للحصول على تلك القروض، بحيث تكون متاحة للدول منخفضة الدخل، هذا فضلًا عن ضرورة أن يقوم المجتمع الدولي بتجنب القروض مرتفعة التكلفة التي يتم توجيهها للدول الإفريقية؛ لمواجهة أعباء التغيرات المناخية، وعليه، قد يكون من الضروري أن تتوجه التمويلات إلى الاستثمار في مشروعات تحقق التنمية المستدامة، بالإضافة إلى فتح قنوات تمويلية منخفضة التكلفة.
(*) حدوث إصلاح هيكلي في المؤسسات الإفريقية: تتمثل المشكلة الأساسية، التي تواجه تحقيق التنمية المستدامة في القارة الإفريقية، في كيفية جذب التمويل الخارجي، وهو ما يعوق الاستثمارات الخضراء في هذه المنطقة، فيمكن تحفيز هذه الاستثمارات، من خلال ضبط التدفقات المالية غير المشروعة، فبدون تحقيق الشفافية، قد يصاب مناخ الأعمال بالضباب. وعليه، يمكن القول إن القيام بإصلاح مؤسسي داخل القارة الإفريقية، قد يفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية في كل المجالات، وبالأخص في مجال المشروعات الخضراء، ما يعمل على تقليل العبء عن القارة في تحمل أعباء الآثار المناخية.
(*) توسيع دور المؤسسات التمويلية: المؤشرات التي أوضحها رئيس مجموعة البنك الإفريقي للتنمية، تؤكد مدى معاناة القارة الإفريقية من آثار تغير المناخ، إذ يتم خسارة من 7 إلى 15 مليار دولار كل عام لمواجهة آثار التغير. ومن أجل تحقيق معدلات عالية من الاستثمار في هذا المجال، قد يكون من الضروري أن تطبق المؤسسات المالية ضمانات لتقليص مخاطر استثمارات القطاع الخاص، مع تقديم الدعم والتمويل للمشروعات التي توفر عوائد مرتفعة، وتسمح للمستثمرين بتحقيق أرباح لجذب استثماراتهم في مشروعات الطاقة النظيفة.
(*) إنشاء المزيد من محطات المياه: توفر الموارد المائية في القارة الإفريقية يُمثل التحدي الأكبر أمام دول القارة، خاصة فيما يتعلق بتنفيذ مشروعات الاقتصاد الأخصر، وهو ما يتطلب إنشاء العديد من محطات معالجة المياه على غرار ما أنجزته الدولة المصرية، وتسريعها وتيرة الإنجازات في مجال الطاقة المتجددة، وهو اعتبره رئيس البنك الإفريقي في كلمته بمثابة المثال الذي يجب اتباعه.
(*) إنشاء مرفق إفريقي عادل لنقل الطاقة: قد يؤدى إنشاء مرفق إفريقي عادل لنقل الطاقة إلى الانتقال من محطات توليد الطاقة من زيت الوقود الثقيل والفحم بالقارة الإفريقية إلى أنظمة الطاقة الأساسية للطاقة المتجددة، ما ينعكس بالإيجاب على جميع دول القارة.
(*) توفير حقوق السحب الخاصة: توفير حقوق السحب الخاصة من خلال مصارف التنمية المتعددة الأطراف، قد يحقق استفادة كبيرة من موارده السريعة والعاجلة، إذ يُمكن للبنك الإفريقي للتنمية الاستفادة بمعامل 4 مرات، ويمكن للبنك استيعاب حقوق السحب كأسهم، وهو ما قد يوسع قدرته على الإقراض للبلدان، كما أنها ستوفر رؤوس أموال لبنوك التنمية في إفريقيا كجزء من التمويل المشترك.
مصر نموذجًا:
أشاد رئيس مجموعة البنك الإفريقي للتنمية، بالجهود المصرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وبالمشروعات القومية التي تقوم بها الدولة لتوفير المياه، وأشار إلى أن محطات معالجة المياه في مصر، توفر المياه لـ 3.3 مليون شخص. وعليه، يمكن القول إن إشادة رئيس مجموعة البنك الإفريقي للتنمية، وقوله بأن "مصر قامت بتسريع وتيرة الإنجازات في مجال الطاقة المتجددة"، جعل الباحث يحاول رصد تحركات الدولة المصرية في هذا المجال، وذلك على النحو التالي:
أولاً- فيما يتعلق بمشروعات محطات معالجة المياه، يمكن التأكيد أن مصر حققت طفرة كبيرة في تنفيذ العديد من المحطات، وذلك لتعظيم الاستفادة من وحدة المياه ومواجهة التحديات التي تواجهها في توفير المياه للزراعة، والزيادة السكانية، فقد بلغ عدد محطات معالجة مياه الصرف الصحي التي نفذتها في مصر حتى فبراير 2022 هي 480 محطة (ثنائية وثلاثية)، بطاقة استيعابية 16.2 مليون م3/ يوم، وطاقة فعلية 13.7 مليون م3/ يوم، وتستهدف مصر إقامة 211 محطة معالجة، ويمكن توضيح أكبر محطات مُعالجة المياه في مصر من الشكل رقم (2) الذي يرصد خريطة محطات المعالجة الجديدة ذات الحجم الكبير بالدولة المصرية، وذلك على النحو التالي:
(-) محطة معالجة مياه بحر البقر: تعد هذه المحطة من أكبر المحطات لمعالجة مياه الصرف الزراعي في العالم، إذ تساهم في استصلاح 456 ألف فدان من خلال إعادة التدوير وتشغيل مياه الصرف الزراعي والصناعي والصرف الصحي، التي تحول من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية أسفل قناة السويس، وتتميز هذه المحطة بالضخامة، نظرًا لتغطيتها مساحة 155 ألف فدان، بإجمالي 650 ألف متر مكعب في الجانب الشرقي لقناه السويس وإلى الجنوب من مدينة بورسعيد بنحو 27 كيلو مترًا، وتعمل المحطة من خلال 4 وحدات لمعالجة المياه، وتُقدر القدرة الاستيعابية لكل وحدة بـ14مليون م3/ يوم، وتبلغ كمية المياه المعالجة في السنة 2 مليار متر مكعب، وتدل هذه الأرقام على مدى كبر حجم هذا المشروع الذي قامت الدولة المصرية بتنفيذه.
(-) محطة الجبل الأصفر: تعتبر هذه المحطة من أكبر محطات معالجة مياه الصرف الصحي في الشرق الأوسط، وتعمل وفق أحدث نظم التشغيل العالمية، إذ روعي في تصميمها وتنفيذها تجنب حدوث انبعاثات ضارة بالبيئة، وذلك نتيجة استخدام الطاقة النظيفة والطاقة المتجددة التي توفر ما يُعادل 60% من استهلاك المحطة من الكهرباء، التي يتم توليدها باستخدام الحمأة الناتجة عن مراحل معالجة مياه الصرف الصحي، وهو ما يدل على مدى تفوق التكنولوجيا المستخدمة في هذه المحطات التي تسببت في توفير استهلاك الكهرباء بشكل كبير، وكما تم إنشاء مزرعة تجريبية داخل المحطة بمساحة 300 فدان لاستغلال المياه المُعالجة في الزراعة، ما يعكس التأثير الشديد لهذه المحطة على توفير المياه بشكل كبير.
(-) محطة أبو رواش: تعد هذه المحطة ثاني أكبر المحطات على مستوى مصر، فهي تخدم 9 ملايين نسمة، كما تبلغ تكلفتها 6.2 مليار جنيه، ومساحتها 600 كم2، ومن المتوقع أن تصل كمية الحمأه المُنتجة من هذه المحطة ومحطة زنين إلى 2000 طن/ يوم، ويُمكن الاستفادة من هذه الكميات في إنتاج الغاز لتوليد الكهرباء، ويُمكن استخدامها كسماد عضوي، وهو ما يدل على الاستفادة القصوى التي ستحققها مصر نتيجة إقامة هذه المحطات.
(-) محطة معالجة مياه الصرف الصحي بالمنيا: كميات المياه المعالجة من هذه المحطة، يتم استخدامها في ري الغابات الشجرية، والمسطحات الخضراء بمدينة المنيا، فبدلًا من إهدار المياه العذبة في ري هذه المساحات من الأراضي، قامت الدولة المصرية بابتكار آليات أكثر حوكمة تهدف إلى توفير استهلاك المياه العذبة في مصر.
ثانيًا- فيما يتعلق بمشروعات الطاقة المتجدد، بعد ما قامت مصر بتوطين استخدام الطاقة المتجددة في توليد الطاقة التي تستخدمها في العديد من المشروعات التنموية، وهو ما جذب أنظار الحاضرين في الاجتماع السنوي لبنك التنمية الأفريقي، فمصر حققت العديد من الإنجازات في هذا الشأن، يمكن رصدها كالتالي:
(-) التوسع في مشروعات الهيدروجين الأخضر: تطمح مصر أن تكون على رأس الدول المنتجة للهيدروجين الأخضر، باعتباره وقود المستقبل، حيث قامت مصر بدمجه في استراتيجية الطاقة 2035، كما أن مؤتمر المناخ عمل على توفير فرصة جذب مجموعة كبيرة من الاستثمارات لمصر فى مجال الهيدروجين الأخضر. ويوضح الشكل رقم (3) استثمارات المرحلة التجريبية التي يصل مجموعها إلى 7.4 مليار دولار، توزعت هذه الاستثمارات بين مجموعة من الشركات الرائدة فى مجالات التكنولوجيا، فقد منحت الحكومة المصرية الرخصة الذهبية لـ8 مشروعات استثمارية لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وأطلقت شركة مصر للهيدروجين الأخضر التشغيل التجريبي للمرحلة الأولى من مصنع الهيدروجين الأخضر في مدينة العين السخنة بقدرة 500 ميجاوات في نوفمبر 2022، وتم مد المشروع بـ260 ميجاوات من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وسينتج نحو 15 ألف طن من الهيدروجين الأخضر، ما يُمكن مصر من تعزيز مكانتها الإقليمية في صناعة الهيدروجين الأخضر.
(-) إنتاج متزايد من الغاز الطبيعي: أدى إنتاج مصر لحقل ظهر للغاز الطبيعي عام 2017 إلى إحداث طفرة في إنتاج الغاز الطبيعي، يوضحها الشكل (4) إذ زاد الإنتاج من 41.6 مليار متر مكعب في 2015/2016 إلى 69.2 مليار متر مكعب في 2021/2202، فالزيادة في الإنتاج ساعدت على تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة الصادرات من 0.6 مليار دولار في عام 2014/2015 إلى 8.8 مليار دولار في يناير 2023، وذلك مقابل 8.4 مليار دولار في يناير 2022 بحسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء. فهذه الزيادة ستمكن مصر أن تكون من الدول الأكثر إنتاجًا للهيدروجين الأخضر خلال الفترة المقبلة.
وعليه، يمكن القول إن مصر حققت تقدمًا كبيرًا في توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة بالنسبة للدول العربية الأخرى خلال عام 2022، ويوضح الشكل رقم (5) أن مصر تتصدر إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بمعدلات إنتاج 3.5 جيجاوات ويليها الإمارات بمعدل إنتاج 2.6 جيجاوات، وتحتل السعودية المرتبة الأخيرة في التصنيف، ما يدعم وجهة النظر التي ترى مصر قائدة التنمية الإفريقية، وأنها مُحققة لإنجازات كبيرة في مجالات الطاقة المتجددة.
في النهاية، يمكن القول إن تنفيذ مجموعة التوصيات التي أعلنها بنك التنمية الإفريقي في مصر، التي كان منها سُبل تعزيز تمويل القطاع الخاص في المشروعات، وسُبل تعزيز التمويل والاستثمار الأخضر في القارة الإفريقية- قد تدعم القارة الإفريقية في مواجهة أخطار وخسائر التغير المناخي. وتعد التجربة المصرية رائدة في جذب التمويل لمشروعات الطاقة الخضراء وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.