يأتي إقرار الكنيست" البرلمان الإسرائيلي" 18 فبراير 2024 مشروع قرار بالإجماع بعدم الاعتراف بدولة فلسطينية أحادية الجانب، وتهديد بنيامين نتنياهو برفض الضغوط التي تمارس من أجل تحقيق ذلك إلا من خلال مفاوضات مباشرة، والذي جاء عقب تزايد المطالب الدولية منذ عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023، بحل الدولتين لتسوية مسببات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واعتباره المدخل المناسب لتحقيق هدنة دائمة تسهم في وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي أدى لسقوط ما يزيد على 30 ألف شهيد، و60 ألف جريح.
إذ تتبنى القوى الكبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والصين وروسيا، والدول العربية هذا الطرح الذي يستند إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وفق مقررات الشرعية الدولية، وعلى أساس قراري مجلس الأمن 242و338، وما يتضمنانه من انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 5 يونيو 1967، ومنها الضفة الغربية وقطاع غزة، اللذان يمثلان فقط 22% من أراضي فلسطين التاريخية لتقام عليهما الدولة الفلسطينية المقترحة.
الدولة الفلسطينية
تشكل اتفاقية أوسلوا الأولى التي تم توقيعها بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في 13 سبتمبر 1993 والمعروفة بإعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي للفلسطينيين، بمثابة أول اتفاق رسمي للسلام بين الجانبين، وذلك بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون كضامن للاتفاقية، ورئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين. وتم بموجب الاتفاقية قبول منظمة التحرير الفلسطينية إقامة الحكم الذاتي، والذي في نهايته من المفترض قيام الدولة الفلسطينية. وقد تضمنت الاتفاقية في ديباجتها ما يقر بإقامة تلك الدولة حيث نصت ديباجتها على " أنه آن الأوان لوضع حد لعقود من المواجهات والصراع، والاعتراف المتبادل لحقوقهما السياسية والشرعية، ولتحقيق تعايش سلمي وكرامة وأمن متبادلين، والوصول إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة ودائمة، ومصالحة تاريخية من خلال العملية السياسية المتفق عليها".
وبعد مرور ما يزيد على 30 عامًا منذ توقيع اتفاقية أوسلو، أخفق المجتمع الدولي في دعم تأسيس دولة فلسطينية مستقلة بعد أن استولت إسرائيل على ما يقرب من 78 % من أراضي فلسطين التاريخية في ظل استمرار بناء المستوطنات التي اعتبرتها الأمم المتحدة غير مشروعة وقضم الأراضي الفلسطينية، وحتى مع إحياء المفاوضات في فترات سابقة كان أهمها خارطة الطريق للسلام التي تم طرحها بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد مفاوضات في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، تضمنها في خطاب ألقاه في 24 يونيو 2002 ، والذى دعا فيه إلى إقامة دولة مستقلة تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل ، فقد باءت تلك الجهود بالفشل ولم يتم الاعتراف بإقامة الدولة الفلسطينية.
ويبدو أن تلك الخطة هدفت إلى استمرار مراوغة الإسرائيليين والهروب إلى الأمام بدلًا من تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في أوسلو بإقامة الدولة الفلسطينية. ومع التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي منذ أكتوبر 2023، والعدوان الغاشم على غزة تزايدت التصريحات الصادرة من معظم مسؤولي دول العالم المعنية بتطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لتطالب بإقامة الدولة الفلسطينية كحل جذري محتمل لتسويته.
مواقف مؤيدة
تنوعت المواقف المؤيدة لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ودعم مسألة حل الدولتين منذ عملية طوفان الأقصى، والتي يأتي في مقدمتها:
(*) الرؤية المصرية والعربية: طرح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي 24 نوفمبر 2023 وعقب بدء التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي الجاري، وتزايد العدوان الإسرائيلي على غزة أن يتبع العالم نموذجًا مختلفًا لتأسيس الدولة الفلسطينية يقوم على الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية المستقلة، على أن ترفع الأمم المتحدة عضويتها من دولة مراقب غير عضو حصلت عليه عام 2012، إلى دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
كما تضمنت كلمته الافتتاحية لقمة السلام بالقاهرة 21 أكتوبر 2023 بالبدء العاجل في مفاوضات لإحياء السلام وصولًا لإعمال حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، على أساس مقررات الشرعية الدولية مع العمل بجدية على تدعيم السلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية، للاضطلاع بمهامها بشكل كامل في الأراضي الفلسطينية. كما تتفق كل الدول العربية مع الطرح الداعي إلى حل الدولتين.
(*) الموقف الأمريكي: يعد الموقف الأمريكي هو البعد الحاسم في عملية التسوية السلمية المحتملة للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ظل التحالف الاستراتيجي بين الجانبين. وقد مثل حل الدولتين منذ عملية طوفان الأقصى متغيرًا واضحًا في تصريحات المسئولين الأمريكيين، فقد أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في أكثر من مناسبة ضرورة إقامة دولة فلسطينية، كما سلط وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن الضوء خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن 18 فبراير 2024 على الضرورة العاجلة للمضي قدما في إقامة الدولة فلسطينية تضمن كذلك أمن إسرائيل، مؤكدًا على ضرورة وجوب اتخاذ خطوات جدية لحل الأزمات خلال الأشهر القليلة القادمة.
(*) المساندة الأوروبية: أعلنت العديد من الدول الأوروبية اعتزامها التفكير في الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة في خطوة استباقية من شأنها التمهيد لتطبيق حل الدولتين. كانت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هي الأولي التي يقدم فيها رئيس فرنسي مثل هذا الطرح، عندما اعتبر أن الاعتراف بدولة فلسطينية لم يعد من المحرمات بالنسبة لفرنسا. وقد جاء ذلك التصريح خلال لقائه بالملك الأردني عبد الله بن الحسين بباريس 17 فبراير 2024 قائلا " شركاؤنا في المنطقة، وخاصة الأردن يعملون على ذلك، ونحن نعمل معهم، ونحن على استعداد للمساهمة فيه، في أوروبا وفي مجلس الأمن، الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس من المحرمات بالنسبة لنا". كما أعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون بأن الحكومة وحلفاءها سينظرون في مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بما في ذلك في الأمم المتحدة. وأكد المستشار الألماني أولاف شولتس، أن الحل المستدام للصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يمكن أن يقوم إلا على حل الدولتين، في حين دعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى عقد قمة دولية للسلام من أجل إيجاد حل طويل الأمد للأزمة بين إسرائيل وحماس وسرعة التوصل لحل الدولتين.
(*) الدعم الصيني والروسي: تتبنى الصين تكثيف مجلس الأمن الدولي لوساطته الدبلوماسية وإعادة إطلاق حل الدولتين، والدعوة لمؤتمر سلام دولي يكون أكثر موثوقية وفاعلية في أقرب وقت ممكن، حيث أشار وزير الخارجية الصيني وانج ويي 30 نوفمبر 2023 إلى أن الصين تدعو إلى عقد مؤتمر سلام أكثر حجية وشمولًا وأكثر توجهًا إلى تحقيق نتائج في أقرب وقت ممكن لوضع خارطة طريق وجدول زمني لحل الدولتين. أما روسيا التي تعد عضوًا في الرباعية الدولية للشرق الأوسط إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، فهي تتبنى التسوية السلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ يؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن هناك حاجة ماسة لحل مستدام مبني على مبدأ حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية، ويطالب أيضًا بوقف إطلاق النار وعدم اتساع رقعة الصراع.
رفض إسرائيلي
في مقابل الدعوات المتزايدة التي تطالب بحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية هناك رفض أركان الحكومة الإسرائيلية لذلك التوجه، حيث أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو 18 فبراير 2024 إلى أن إسرائيل ترفض الإملاءات الدولية فيما يتعلق بتسوية دائمة مع الفلسطينيين، ولا يمكن التوصل إلى مثل هذا الترتيب، إلا من خلال المفاوضات المباشرة بين الجانبين، دون شروط مسبقة، وأن إسرائيل ستواصل معارضتها للاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية. وقد عبر عن ذلك التوجه الرافض وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بالقول إن العالم يريد أن يمنح الفلسطينيين دولة، وأن هذا لن يحدث، في حين اعتبر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أن الدولة الفلسطينية تشكل تهديدًا وجوديًا لدولة إسرائيل، وأنه لن يوافق بأي حال من الأحوال على حل الدولتين. أما وزير الطاقة إيلى كوهين فتبنى أن إسرائيل تفضل عدم التوصل إلى اتفاقيات سلام مع الفصائل الفلسطينية، إذا كانت ستؤدي لقيام دولة فلسطينية.
مجمل القول إن تزايد دعوات الدول المعنية بتطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بإقامة الدولة الفلسطينية ومساندة حل الدولتين يعكس حقيقتين أساسيتين أولهما فشل الحكومة الإسرائيلية في تحقيق أي من أهدافها في غزة بعد نجاح الفصائل الفلسطينية في تكبيد جيش الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وثانيها إدراك الدول الغربية وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية أن إسرائيل تواجه تحديًا وجوديًا في ظل وجود تلك الحكومة الأكثر تطرفًا ويمينية في تاريخ إسرائيل، وأن تكثيف الضغوط عليها بالترويج لحل الدولتين ربما يؤدى إلى تراجعها عن عملياتها الغاشمة في غزة، والانصياع لإرادة المجتمع الدولي في وقف الحرب وإدخال المساعدات الانسانية إلى قطاع غزة. لكن يبقى الطرح المصري الذي يمثل الطرح النموذج الذي يتبنى الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة كعضو كامل هو الخيار الأنسب والداعم لحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فهل يستجيب المجتمع الدولي لرؤية مصر قبل أن تتسع دائرة الصراع لتهدد السلام والاستقرار الدوليين؟